[align=justify]هلّت مناسبة "حاكوزة" بطلعتها البهية وانفتحت أبوابها على مصارعها..سوق الدجاج هذا الأسبوع يعج بالباعة الجوالة منهم و"الفراشة"على غير العادة..تكتظ الممرات وتختنق المسالك بالرائحين والغادين من المتسوقين والسائحين وأطياف من نماذج بشرية،تستجدي هذا وذاك،وأخرى تترصد جيوب المنشغلين في شرود بالتبضع..صخب وجلجلة يعمان المكان..نداءات الباعة تتعالى..تتنافس فيعلو بعضها على بعض وتزداد حدة..يتفننون في انتقاء عبارات مغرية لجلب الزبناء نحو معروضاتهم : ها الدجاج البلدي!..ها بيبي مليح!..توكلوا على الله أمّالين حاكوزة!..ها خيرات ربي!..أراجل ألمرا!..ها لمليح فابور!..
"المعطي" و"عمي علي" و"باسو" ثلاثة آدميين أناخ عليهم الدهر بكلكله..استحالت نضارة الشباب إلى ذبول في وجوه موشومة بتجاعيد الزمن المقيت.. يسندون ظهورهم إلى الجدار الداكن..يحدقون في المارة بنظرات وديعة وابتسامات عريضة،تضمرفي غور النفوس توسلا واسترضاء..يفترشون الارض صبيحة كل يوم سوق بأردية بالية من البلاستيك تراكمت عليها بقع بنية هي اثر لفضلات الدجاج،عليها سلل من البيض البلدي وتربض فوقها ديوك وفلالس تشرئب باعناقها وتحركها في صمت في كل الاتجاهات..كما لو ان حدسها الحيواني ينبؤها بغربة المكان..
قبالتهم عربة يدوية ممتلئة خضرا من كل الأصناف،يقف وراءها الملقب بـ "الإخواني"..الرجل ذو اللحية الكثيفة الحالكة السواد..الممتدة على صدره العريض..محشوا في جبته السوداء،كان يبدو مثل غراب تائه وسط زحمة الباعة والمتسوقين..في غمرة انشغاله،كان غارقا في الترويج لبضاعته كما الآخرين بصوت جهوري:ها ماطيشة!..ها باطاطا!..ها خيزو!..أعباد الله!..زيدوالرخى لله!..
امرأة بدينة في مقتبل العمر،تمشي الهوينى،أثقلت كثل اللحم والشحم ممشاها فبدت في خطوها متمايلة مثل برميل يتأرجح ذات اليمين وذات اليسار..تحمل سلة بيض وديكا روميا..توقفت بقامتها المديدة أمام الرجال الثلاثة..تطلعوا إليها بنظرات فاحصة،ونظر بعضهم إلى بعض في فضول وتساؤل خافت :
- ياسبحان الله من هذه الخليقة..؟
- لا أدري..ربما تكون زبونة أو من الباعة؟
- لم يسبق أن رأيتها هنا من قبل..!
- "الله يحضّر السلامة"..!
كما لوانها أدركت بحدسها ما يدور في غور النفوس،ردت على الجميع بنظرات صارمة وإيماءات لامبالية..ودون أن تنبس بكلمة،اتجهت صوب المكان الشاغر..بصعوبة بالغة تمكنت من الارتماء بمؤخرتها على الأرض،لتضع بضاعتها أمام ناظريها.."ياباسم الله!! توكلنا على الله!!"..تفوهت بذلك بتؤدة وهي تلهث وتلهث..
قال "عمي علي" منبها :سيدتي..هذا المكان ليس بشاغر..ردت بانفعال :كيف تجرؤ يارجل؟..صمت الرجل مخذولا..قال "باسو" بعد تردد موضحا:سيدتي..إنه يعني ان المكان لشخص آخر غيرك..لم تجب وأشاحت بوجهها عن مخاطبيها..قال "المعطي" مضيفا:إنه لـ"مّي رقية"..وهي آتية لا محالة..استدرك "الإخواني" الموقف،دنا من الجمع،عدل من شعث لحيته وقال في حذر: سيدتي..لقد اشترته "مّي رقية"،وهو في ملكيتها منذ أن عرفناها..جمدت الدماء في عروق المرأة،وقالت بنبرة حادة:ومتى كانت الأمكنة تباع وتشترى..؟..اتقوا الله والزموا حدودكم..!!..ردد "الإخواني" في دخيلته :"اللهم إني أعود بك من شر ماخلقت.."..وجم الجميع لرد المرأة وخيمت عليهم سحابة صمت وانشغل كل ذي حاجة بحاجته.
تعلقت الأنظاربـ "مّي رقية" وهي تقترب رويدا رويدا..امرأة ستينية..شعر أشمط،وعينان تغور فيهما الكآبة..تكالبت عليها صروف الدهر فبدت بهيأتها ومشيتها مثل إنسان آلي بليت قطع غياره وكادت أن تفكك أجزاء..كانت تبدو مزهوة في ترنح بحملها:خمسة أدياك سمينة ربطت قوائمها بخيط..
انتصبت واقفة بقوامها القصير أمام النظرات العالقة بها،نسيت التحية ونبحت في وجه المراة البدينة :
- هذا الموضع موضعي..كيف تجرؤين؟
- المكان لله..انصرفي لحالك..!
- ومتى كان لامثالك مثل هذه السطوة؟! هيا أفسحي الطريق..!
- ومتى كان لاشباهك من العجائز الشمطاوات الحق في توجيه الأوامرلأسيادهن؟!
انتفخت أوداج "مّي رقية" وانهالت عليها شتما:"تفو عليك..أطبوزية..أراس الفيلة..الله يلعن اللي مايحشم..!!"
حاول "الإخواني" التدخل":يا امرأة ..اتقي الله هذا ليس مكانك بشهادة الجميع!"..
ردت البدينة على الفور صافعة إياه بلهجة موجعة:" ومالك أنت أليحيت العتروس..دّيها فجّيهة اللّي ضاراك..!!"..تراجع الملتحي مذموما مدحورا وقال في نفسه آسفا:"مالذي جرى ياناس في يوم الشؤم هذا؟..اللهم إني أعوذ بك من شر ماخلقت..!!".
بدأت جذوة الخصام والتوتر يزداد فتيلها اشتعالا شيئا فشيئا..الباعة والمارة يحاولون تهدئة الوضع..ينحون باللائمة على هذه الآدمية الدخيلة..تبوء محاولتهم بالفشل..
على حين غرة،وفي غفلة من الجميع،وجهت البدينة ضربة غير متوقعة بقدمها الفولاذية إلى ساق العجوز..اهتزت على إثرها باتجاه "باسو" الذي تلقفها حماية لها من السقوط..تطايرت الأدياك في الهواء محدثة وشوشات لترتطم بالأرض..استجمعت شتاتها ثم ارتمت بين أحضان خصمها..أمسكت بتلالبيبها وحاولت جاهدة الوصول إلى شعرها المسدول..تنط وتنط مثل القريدة لكن بلا جدوى..فقد كانت "مّي رقية" تبدو مثل قزم مسلوب الإرادة بين يدين فظتين غليظتين..وفي لحظة من اللحظات،حدثت عملية الالتحام..حاول المتدخلون فتق ما انرتق لكن هيئات هيئات..غرزت "مّي رقية" أظافرها في كثل اللحم وأمسكت الأخرى بخناقها مثل دجاجة مغلوبة على أمرها..حمي وطيس العراك..تعالت الصيحات الآدمية مممتزجة بقأقآت وصياح الطيور الداجنة..تطايرت أجزاء من ريشها فوق الرؤوس وتدحرجت سلل البيض بمحتوياتها هنا وهناك..
وعندما أدركت العجوز ان معركتها آيلة لا محالة إلى الخسران،انقضت بكل قواها مطبقة،كما الكماشة،بماتبقى لها من أنياب،على معصم البدينة التى أطلقت صرخة مدوية متراجعة إلى الوراء من وخز الألم..غير أنها فقدت توازنها فتداعت إلى الأرض كجلمود صخرسقط من عل..امتدت إليها الأيدي لانتشالها من سقطتها..استوت نصف استواءة لكن زلت بها القدم لتتهاوى على العربة الخشبية لـ"لإخواني" بقوة قبل أن تعود ثانية إلى الأرض :دراااااااااااااااف..تناثرت حبات البطاطا والطماطم والخيار..استحالت إلى سلاطة تحت أقدام الرائحين والغادين..أطبق "الإخواني" بكفيه على رأسه..ردد في عقر ذاته ملوما محسورا: "مالذي جرى ياناس في يوم الشؤم هذا؟..اللهم إني أعوذ بك من شر ماخلقت..؟"
الجسد الممتلئ ممدد وسط ركام من الخضر..يسمع له لهاث وشهيق وزفير..شرعت تتلمس بيدها منثورات الخضرعلى الأرض..التقطت أنفاسها وأمسكت بعيار الوزن الحديدي للميزان من فئة خمسة كيلوغرامات..دسته وراءها..بالكاد استطاعت الوقوف..دنت من "مّي رقية" ثم هوت عليها بالعيار فأصاب قنة رأسها..تهاوت للسقوط منهارة ودخلت في غيبوبة..تحلق خلق كثير حولها مسعفين..اندفع الرجال الثلاثة لمحاصرة المرأة البدينة التي انتحت ناحية تندب حظها العاثرفي يومها المشؤوم..
هرول "عمي علي" بخطى حثيثة إلى مخفر الشرطة على بعد خطوات من السوق.. قال بارتباك مخاطبا رجل الأمن الذي دفن رأسه بين أوراق يخط عليها خطوطا مبهمة وبلا معنى :
- سيدي..سيدي..لقد أصيبت "مّي رقية" في رأسها..
لم يكلف الرجل عناء النظر لمخاطبه،وقال كما لو انه يحادث ركام أوراقه :
- هل هناك جروح ودماء سائلة؟
- لقد أصيبت في رأسها إصابة بليغة بعيار الوزن الحديدي..
- قلت لك هل هناك جروح ودماء تسيل..ألا تفهم؟
- لا..ولكنها دخلت المسكينة في غيبوبة..
قال الشرطي بلهجة صارمة يشوبها الاستهتار واللامبالاة:"دعنا من هذه التفاهات وانصرف لحالك..".قال "عمي علي" بنبرة توسل :" هو جرح طفيف ولكن سيدي..."،قاطعه محدثه في تهكم:"جرح طفيف؟..هاذي موتة حمار..عاود الاتصال متى كانت هناك دماء سائلة.."..لفظه المخفر لا يلوي على شيء وأحس بحرقة تلهب أحشاءه..وانصرف لحاله غضبان أسفا..
الأضواء الحمراء المتراقصة لسيارة الإسعاف تلوح من بعيد..تخترق الزحمة مطلقة صفارة الإسعاف لانتشال الضحية..طفق الرجل الملتحي يلملم شتاته ويهيئ من وضع عربته المنقلبة بمعية الرجال الثلاثة..خيمت على وجوههم الممتقعة لمحة انكسارواستبد بكيانهم يأس مرير..ولّوا أبصارهم في سكون شطر سيارة الإسعاف وهي تشق طريقها في اتجاه المشفى..مسد الرجل الملتحي لحيته بهدوء ثم قال بصوت تشوبه الحسرة والأسى:"مالذي جرى ياناس في يوم الشؤم هذا؟..اللهم إني أعوذ بك من شر ماخلقت..؟"..ردد ذلك للمرة الأخيرة،لكن ملء السمع والبصر...
**************************************************
* حاكوزة:هي مناسبة لتخليد يوم 13 يناير من كل سنة كبداية لموسم جديد وسنة فلاحية جديدة في المغرب، وأعطوها من الأسماء “ليلة حاكَوزة”، تعد فيها وجبات تختلف تسمياتها باختلاف مناطق المغرب: الرفيسة - مضهوسة - هربل- ؤركمين -الكسكس بسبع خضاري، ولعل القاسم المشترك بين الوجبات هو ذبح الدجاج البلدي أو الديك الرومي الأسود والبيض البلدي، مع الحرص على إدخال الحبوب والقطاني وخضر الموسم...
* بيبي : الديك الرومي.
* لمليح فابور:الجيّد مجاني.
* ماطيشا : طماطم.
* خيزو :جزر.
* الرخى لله :بثمن زهيد.
* الطّبّوزية : المنتفخة البطن أو البدينة..
* ليحيت العتروس :"لحية" ذكر المعز.
* دّيها فجّيهة اللي ضاراك :لا تحشر أنفك في مالا يعنيك.
* موتة حمار: غيبوبة متعمّدة..
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: عراك حامي الوطيس...!!
من الغريب ألا أنتبه لهذه القصة المفعمة حيوية وواقعية ..
حملتنا أخي صالح إلى أجواء مغربية صرفة وكأننا جزء منها نعايش عن قرب ما تحفل بها الأسواق من غرائب ..
مرحبا بك أخي في عالم القصة الذي أثريته بهذا النص البهيج .
محبتي .
[align=justify]الأستاذ رشيد الميموني
أعتقد ان هذه الالتفاتة منكم ومن أمثالكم هي بالفعل حافز للمضى ،ودرء لليأس،والاطمئنان على عصارة الفكر الإبداعي، وإذكاء لمواصلة الجهود..
تقديري الكبير[/align]