الــــديناصور...!!
[align=justify]
معظم الناس،كبيرهم وصغيرهم،ينادونه بـ"الديناصور" ملء السمع اوبنبرات خافتة تلوكها الشفاه..الى حد كاد فيه اللقب ان يجري جريانا على ٱلسنة الاهل والاقارب ذاتهم..
كثير من الأصدقاء يتحرجون من ذلك ،فيحجمون عن نبزه باللقب مخافة الإحراج، ونزر يسيرهم من كان يتجرأ على ذلك،إذ لا يتوخون من فعلتهم تلك إلا الانغماس في أجواء من الضحك والمزاح،ليس إلا..
أصبح لقب "الديناصور" مع توالي الشهور والسنين،وكثرة ترديده وتداوله بين هذا وذاك،كما لو أنه سمة على جبين الرجل،تلتصق به وتلازمه في حله وترحاله إلى درجة أوشك فيها ٱن يصدق هو ذاته بأن اللقب حقيقة لا مفر منها بالرغم من أن وثائق الهوية تتبث عكس ذلك..
بمجرد أن يتناهى إلى مسمعه لفظ "الديناصور"،يقف موقف المتبرم متظاهرا على الرغم من ذلك باللامبالاة عملا بنصيحة الطبيب المداوم على علاجه :"إن ردود أفعالك العنيفة تجاه الناس لن تزيدك إلا اكتئابا وإحباطا..بالعكس،أنا أرى أن ذلك سيمنحك قوة ما دام اللقب ذاته دليلا عليها"...
هو يدرك تمام الإدراك أنه كان في ما مضى من الأيام حاد الطباع أكثر من اللازم..يثور ثورانا كلما نودي باللقب،وزاده حنقا وتذمرا بنيته الجسمانية الزائدة عن الحد؛فكان بين حين وآخر يتألم لسوء طالعه وينحي باللائمة على الأقدار مرددا في دخيلته :" تبا لك من آدمي نحس..أكان قدرك أن تكون نشازا بالقياس إلى الناس أجمعين؟ "..لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده مستدرا من ربه المغفرة واللطف..
في كل مرة تنتهي فيها زيارته للطبيب،كان يكر راجعا إلى منزله خائر البدن،فتستقبله زوجه بالسؤال الإنكاري المعتاد،قبل حتى أن تستفسره عن نتائج الفحوص الطبية :"ماذا سيقول لك الطبيب يارجل..؟هراء في هراء..إنه حسد الحساد وتبعات العين الشريرة ..أتفهم؟.." تقول ذلك وهي تتمتم بآيات قرآنية من سورة الفلق..يرد عليها بحنق:"اسألي عن حالتي أولا يا امرأة واستغفري الله.."
بعد ٱن ٱحيل على المعاش بمحض إرادته لمشاكله الصحية،كان من دأبه،ضحى كل يوم، ٱن يتخذ له مجلسا أمام مسكنه على كرسي خشبي بسطت عليه سجادة صوفية..وما أن يتناول وجبة غذائه،حتى يعود لنفس المكان إلى حدود صلاة المغرب ثم يلملم شتاته مستندا إلى زوجته صعودا إلى أعلى السطح عبر الأدراج الإسمنتية،ليدلف إلى غرفة صغيرة يقضي بها ساعات طوال للصلاة وتلاوة الأذكار..
كان يبدو مكتنز الجسم،ضخم الرأس،عريض المنكبين،تمتد بين فخديه كرش ذات ثنايا وطبقات كما لو أنها قربة تمتلئ ماء،يمسدها براحتيه بين حين وآخر بلا شعور،محدقا بمقلتين جامدتين إلى الرائحين والغادين..يرد على التحيات بابتسامة باهتة..
بين لحظة وأخرى تنقلب الأوضاع إلى أجواء مشحونة بالتوتر،حيت تترامى إلى مسمعه نبزات المشاغبين من الصبيان،ناهيك عن الراشدين :" وا الديناصور..!..الديناصور..الديناصور.."يلوح بعكازه في الفراغ متوعدا ومتمتما بكلمات غيرمفهومة..وفي ذات الوقت،تطل زوجته من شرفة الدار وقد استبدت بها فورة غضب عارم..تصرخ بملء فيها : اللعنة عليكم ايها الإنذال إلى يوم الدين..أما هو،فبالكاد كان يقوى على الرد بقوة،إذ كانت العبارات تنطلق من شدقيه متقطعة خافتة،وهو يلاحق المنادين بنظرات شارذة...
آذنت صلاة المغرب بالقيام..وطد الرجل العزم على الصعود إلى سطح بيته..لا يدري لم قرر وحده هذه المرة الاعتماد على نفسه دون معونة من زوجته..مثل إنسان آلي،شرع يخطو بخطى وئيدة مستعينا بعكازه الحديدي..بلغ منتصف الأدراج الإسمنتية الملساء،وهو يلهث ويلهث..على حين غرة،انزلق رأس عكازه المسنن..فقد توازنه وتهاوى في المنحدر إلى منتهاه.."درآآف"..سمع له شهيق وزفير وأنات متتالية..
تناهى دوي السقطة إلى مسمع الزوجة..اندفعت صوب الرجل وقد امتلكها رعب شديد..طفقت تولول وتصرخ وتتلمس أجزاء من الجسد المنهار..تصيح في ارتباك :" لقد فعلتها أيها المعتوه.. ماذا دهاك ؟ أرأيت؟ ألم أقل لك إنها العين الشريرة؟ ".
حُمل الرجل على الفور إلى المستشفى حيث خضع لعملية جراحية عاجلة.. متقلبة على جمار حرقتها،كانت قرينته تترقب بفارغ الصبر وبأسى ومرارة نتائج العملية أمام بوابة قاعة الجراحة،تتوسل إلى ربها في خشوع ورهبة..
قال الطبيب بعبارات مقتضبة وسريعة لحظة خروجه:"آسف سيدتي..زوجك لن يستطيع المشي"..لقد أصيب إصابة بليغة في عموده الفقري..لم تنبس بكلمة لهول الصدمة..أحست بدوار وألم ممض يعتصر دواخلها المحمومة..
توافدت جموع غفيرة من الأهل والأقرباء والأصحاب والجيران على غرفة إقامته..أطفال الجيران والمعارف جاؤوا لعيادته،حاملين باقات من زهور،ارتسمت على أساريرهم الغضة مسحة حزن عميق..
- قضاء الله ومشيئته ياسيدي..
- لا مرد لمشيئته سبحانه..
- ندعو الله لك بالشفاء التام..
- الحمد لله ٱنك لا تزال بيننا..
مضطجعا على سريره،كان يبدو شاحب المحيا،ذابل المقلتين،ضامر السحنة..أخذ يتفحص الوجوه بنظرات كليلة ويوزع على الجميع ابتساماته الوديعة ويومئ إليهم بإشارات الرضى،تنم عن إحساس بالبشر والارتياح..استجمع شتاته بعض الشيء،تنحنح واضعا قبضة يده على فمه ثم قال مازحا :"ها أنتم ترون يا سادة..كل الديناصورات انقرضت،وأنا ما زلت أقاوم ولم أنقرض"..
اتسعت الاحداق واهتزت الغرفة حبورا وابتهاجا..عجب الجميع لهذه المصارحة الفجائية التي لم ترد على لسانه قط..غرقت الأفئدة في مرح طفولي وانفرجت الشفاه عن ابتسامات وضحكات متتالية،جللت بجلالها كيان الرجل المعلول...[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|