تجلي الجماهيرية في شعر رياض الغريب
بعد تخلي الشعرية الحديثة عن الموسيقى الشكلية المطربة و عن التوصيلية الخطابية وتجاوزها لهذه العقدة المقدسة ، و اعتمادها فضاءات التناغم الصوري و الايحائي ، و البوح الرمزي و الايحائي كما هو ظاهر ، مع ادعاء واهم بذاتية التعبير الشعري المعاصر و طبقية المتلقي ، وهذا وهم مدرسي ليس الا ، كان من الصعب فنيا الجمع بين جماهيرية القصيدة و محاكاتها مشاعر المتلقي الجماهيري و مخاطبة عقله و بين المحافظة على البوح الرمزي و الايحائي و التجلياتي .
هنا دخلت اللغة ازمة العزلة و صار الحديث عن ابراج عالية للشعر و حجب معرفية و كوكب اخر و مدينة خاصة ، و هذه كلها اباطيل ، و الحق ان هناك لغة قوية و هناك لغة ضعيفة ، اللغة القوية هي التي تمثل المعاصرة فنيا و متلقياتيا ، و اللغة الضعيفة اما ان تتنازل عن المعاصرة الفنية فتكون لغة متخلفة او تتخلى عن المتلقياتية فتكون لغة انطوائية انعزالية .
من امثلة اللغة القوية ما رايناه في لغة الشاعر العراقي رياض الغريب فانها في الوقت الذي تحافظ على عناصر الجمالية للشعرية المعاصرة فانها ايضا تحاكي الجماهير و تخاطبهم و تمثلهم و تتفاعل معهم بظهور و تجل لهم قوي ، انها لغة تتجلى فيها تجربة الشاعر و الشعرية و تجربة الجماهير و الشعوب و الانسانية و التعبير عنهم .
ان اللغة الجماهيرية ليست فقط تبوح و تمثل و تعبر عن هموم الجماهير و الامة ، بل هي تحاكي مشاعرهم و عقولهم و تهتم بالمتلقي الشعبي الجماهيري ، هذا هو سر اللغة العظيمة اللغة القوية .
انما نهتم بهذا الشكل لانه يتجاوز مرحلة الاشكالية في الشعرية الحديثة ، و يمثلا تمثيلا حقيقيا للغة المتوهجة التي تتنازل فيها الرمزية لاجل التجلي ، للايحاء المرجعي ، انها الايحاء التجلياتي النافذ لاعماق الانسانية و تجربتها الواسعة .
نجد الشاعر في قصيدة (سواد الاسئلة ) مظهرا لتجليات جمالية و متلقياتية ،فهو في بداية عنوانه يبوح و يمثل السواد الطاغي المنتشر في جهات كثيرة من حياة الشعب ، ثم يقول (هو لا يفهم الطقس و احتملات البرد في ثلاجة تمدد فيها غرباء بانتظار الدفن في قبر بلا اسم و لا حنين ) فهنا الغرباء والواهم و البرود الطاغي و اللاجدوى و والعزلة كلها تتجلى . ثم يتجه بقوة نحو المتلقي الجماهيري بتوصيلية عالية ( لا يفهم الرتابة في كف ساحر اكل الاخضر قبل اليابس في البلاد ، حظه العاثر) انه يشير وبقوة الى حجم الوهم ، المتجلي هنا بقوة ، مع بيان لحجم الدمار و الاثر السيء ، ثم تصل ظاهرة تجلي الوهم اوجها بطريقة الكتاب السرديين و الذروة النموذجية عندهم فالغائب الحاضر بطل القصيدة (لا يفهم حلا لفكرة الطقس وهو يقلب الطاولة على راس السلام الذي عتقه فوق سطوح توهم انها طفولته التي غفت في ليلة صيف باردة) انها صرخة انقلابية ضد وهم يمتد للطفولة ، انه تجلي للذات التعيسة في وهمها الكبير. هكذا شاعرنا يحاكي و يخاطب المتلقي الجماهيري بلغة قوية تجلياتية تحافظ على عناصر الجمالية المعاصرة . و للكلام بيقة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|