تهويمات زمانية....
بحرٌ من نقاط نورانية مضيئة تسبح في فضاء لا حدود لأبعاده، بانتظار أن يُؤذَن لها بالدخول إلى قناة هائلة الحجم على طرفيها أبواب لا تُحصى، لكل نقطة نورانية باب خاص بها للدخول وآخر للخروج.. لكن دخول أي منها وخروجها ليس إرادياً بل وفق تنظيم دقيق وَضَعَهُ مُبدع تلك النقاط وقناة العبور أيضاً.. لذلك، وبمجرد أن يأتي الأمر إلى إحدى النقاط بالعبور تراها لا تستطيع مجرد التردد في الاستجابة، بل تمضي طائعة إلى حيث ينفتح لها باب الدخول إلى تلك القناة الضخمة التي تمور بمليارات النقاط التي دخلتها قبلها وتلك التي ستدخلها بعدها..
المثير في الأمر إلى حد الإذهال هو التحول الذي يطرأ على أي نقطة تدخل تلك القناة منذ لحظة عبورها باب الدخول الذي يُفتَح لها وحدها، في موعد محدد من قبل مبدعها ومبدع تلك القناة الضخمة.. إنه تحولٌ نوعي لا مثيل له، ولا يمكن لعقل فهم كينونته وماهيته.. فبمجرد أن تعبر باب الدخول الذي يعود ليُغلَق خلفها، تتحول إلى كائن حي يُدعى إنسان.. ولهذا الكائن مضمار خاص به لا يُزاحمه فيه أيٌّ من المليارات التي سبقته إلى هذه القناة أو التي ستدخل بعده.. ومع أن أطوال هذه المضمارات تختلف من إنسان لآخر، إلا أنها مهما طال أحدها أو قَصُر مُدَرَّجَةٌ أرضُ كلٍّ منها بدقة متناهية بأجزاء متماثلة ثابتة تُشكل مقياساً موحداً للجميع، يُدعى الزمن، أجزاؤه البادية تُشكل وحدات متساوية الطول تُسمى أصغرها بالثواني، وكل عدد محدد من هذه الثواني يُسمى دقيقة وكل ستين دقيقة تسمى ساعة، وكل أربع وعشرين ساعة تسمى يوماً وكل ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً تُسمى سنة.. ومجموع السنين الخاصة بكل إنسان هو عمره الذي تحدُّه الثانية الأولى لدخوله في تلك القناة بدءاً والثانية الأخيرة التي يقضيها فيها قبل أن يُفتَح له باب الخروج ليغادرها قسراً.. فبين هاتين الثانيتين المذهلتين يقضي كل إنسان المدة المخصصة له دون أي زيادة أو نقصان..
لكن، صحيح أن الدخول في هذه القناة والخروج منها قسريان لا إرادة للإنسان في القيام بأي منهما، وحتى مسيره بينهما قسري أيضاً إذ هو ممنوع من التوقف عن أي نقطة مهما أراد أو حاول، وكذلك ممنوع من الرجوع إلى نقطة سابقة، ومن الهرب من أي نقطة أو تجاوزها مهما حاول، إلا أن ما يفعله بين ثانيتي الدخول والخروج هاتين يفعله وهو حرٌّ تماماً وبملء إرادته ومحض اختياره، أياً كان الظرف الذي يقوم بفعل ما يفعله فيه.. ولذلك يتم تزويده بكيسين صغيرين عند الدخول يكبران كلما تقدم به المسير القسري في مضماره.. في أحدهما يتم تخزين أعماله الصالحة وفي الآخر يتم تخزين أعماله السيئة.. وعندما يُغادر خارجاً من باب المغادرة في آخر مضماره الخاص، يُؤخَذ منه هذان الكيسان، ويتم حفظهما بشكل دقيق وأمين بحيث لا يمكن العبث بمحتوياتهما أبداً، ولا يتم عرض ما فيهما إلا في يوم الحساب حين تُعرَض هذه المحتويات تحت بصر صاحبها على خالقه الذي فتح له باب الدخول إلى تلك القناة وباب الخروج لمغادرتها..
هل يعني هذا أن الزمن ثابت وأننا نحن الذي نتحرك فيه وفق تَدَرُجٍ ثابت وحداته القياسية هي الثواني والدقائق والأيام والسنين؟ هكذا يتراءى لي الأمر، وليس العكس، أي ليس الزمن هو المتحرك الذي يمرُّ بالإنسان، مسرعاً أو بطيئاً، بل الإنسان هو المتحرك الذي يعبر قسرياً مضمارَه الخاص في قناة الزمن..
ولكن هل تعني قسرية سيري وفق ذلك التَّدَرُج، ضمن مضماري الخاص، أنني لا أستطيع العودة إلى الوراء مهما حاولتُ إلى ذلك سبيلاً؟
هذا مؤكَّد لا يختلف عليه عاقلان، فما من أحد استطاع أو سيستطيع، مادياً وواقعياً، العودة من لحظة الحاضر إلى أي لحظة ماضية سبقتها، كما لم يستطع أيُّ أحدٍ، بالمقابل، ولن يستطيعَ القفزَ إلى أيِّ لحظة قادمة متجاوزاً غيرها من لحظات..، اللهم إلا بطريقتين غير ماديتين، هما الذكرى والتَخَيُّل..
فعن طريق الذكرى يمكننا العودة إلى لحظة ماضية، ولكن دون أن نتوقف عن التقدم إلى الأمام في قناة الزمن، خلال تلك العودة.. كما نستطيع عن طريق التخيل القفز إلى لحظات قادمة نتصور بلوغها وحدوث ما نتصوره لأنفسنا أثناءها، وهو تصور افتراضي محض قد يحدث فعلاً، وقد يحدث خلافه أو لا يحدث منه شيءٌ أبداً..
وفي كل لحظة نعبر فيها قناة الزمن نعيش ما نسميه حاضراً.. وهذا الحاضر يُولَد في كل لحظة ويفنى.. فكل لحظة حاضرة نعيشها تتحول إلى ماضٍ بمجرد ولادتها لأن نهايتها هي بداية اللحظة التي تليها والتي كانت بالنسبة للتي قبلها مجرد مستقبل غيبي.. ومع ولادة كل لحظة وفنائها يتغير الإنسان العابر في تلك القناة المذهلة.. بل هو يولد في جزء منه ويموت في جزء، كلَّ لحظة.. يولد ذلك الجزء منه في لحظة الحاضر مخلوقاً جديداً سرعان ما يفنى في لحظة المستقبل مفسحاً المجال أمام المخلوق الذي سيكونه فيها، وهكذا دواليك وصولاً إلى لحظة المغادرة..
هل يعني هذا أننا نكون في كل لحظة نعيشها غير ما كناه في سابقتها وغير ما سنكونه في تاليتها؟
نعم.. وليتأمل كل واحد منا مسار حياته، ليكتشف ثبات هذه الحقيقة.. والتغير الذي يطرأ على كل منا لا تنحصر آثاره في الجسد الترابي فحسب، بل في الجوهر النوراني الذي تم إلباسُه بذلك التراب ليتمكن من خوض تجربة الحياة..
إنها المعجزة الإلهية المتجددة في كل ثانية، معجزة ولادتنا في أولها وفنائنا في نهايتها، والتغيير الذي يطرأ علينا خلال المسافة الزمنية التي نقطعها بين بداية كل ثانية ونهايتها.. ففي كل ثانية يكون أحدنا مخلوقاً آخر جديداً غير الذي كانه في سابقتها.. وهو آخر لا في الشكل الجسدي الترابي فقط، بل في التفكير والمشاعر والأحاسيس والتطلعات والرغبات والقدرات العقلية والجسدية والذهنية أيضاً..
ولذلك حين أنظر لنفسي، وهذا متاح لكل منا أثناء مروره بقناة التجربة الحياتية، متأملاً ما كُنْتُه قبل سنين، أجد إنساناً آخر مختلفاً عن الذي أنا عليه الآن تماماً، وهذا الذي أنا عليه الآن سيكون مختلفاً عن الذي سأكونه في المستقبل.. أحياناً يبدو لي ما كنته وما هو محتمل أن أكونه شخصين آخرين لا يمتان لي في لحظتي الحاضرة بصلة.. مع أن جوهرنا نحن الثلاثة واحد، وكينونتنا واحدة.. إن ذاتي هي نفسها لم تَخْتَفِ في أي لحظة وتحل محلها ذات أخرى، بل الذي حدث أنها تغيرت أثناء العبور في قناة التجربة الحياتية تغيراً مذهلاً جعلها تبدو في لحظة الحاضر غريبة عما كانته في أي لحظة من لحظات الماضي..
ولأنَّ لحظة الحاضر صارت ماضياً لا يمكن استعادته، ولحظة المستقبل ما تزال غيباً لا يمكن الجزم ببلوغه، فإن اللحظة الحقيقية الوحيدة في حياة كلٍّ منا، لحظة الحياة المادية التي يمكن أن نشعر بها أننا أحياء حقيقةً، لا عن طريق الذكرى أو الخيال، هي لحظة الحاضر التي يعتقد كثيرون منا أنَّها مجرد لحظة عابرة، وأنَّ زمنها هو أقصر الأزمنة عمراً، لأنها مجرد مسافة صغيرة فاصلة بين لَحْظَتَي الماضي والمستقبل.. فهل هي كذلك فعلاً؟
في وهمي الخاص أيضاً، أعتقد أنَّ الحاضر ليس أطول من الماضي والمستقبل فحسب، بل الحاضر هو الأبدية، ولكن بشرط تثبيته..
ولكن هل يمكن تثبيت لحظة الحاضر وكيف؟
في وهمي أيضاً، يمكن، ولكن بطريقة واحدة تتمثل بانتزاعه من سيرورة الزمن وفصله عن زَمَنَي الماضي والمستقبل، وهذا بتعبير آخر، يعني تجريد أيِّ لحظة من لحظات الحاضر من الزمن، أي بتصييرها بلا بداية ولا نهاية..
ولأن مثل هذا الفعل مستحيل واقعياً، ولأنَّ الإنسان رغبَ به وحاول تحقيقه منذ أن خلقه الله، فقد بحث عن وسائل عديدة لتأبيد أي لحظة من الحاضر، إن لم يكن كلُّ لحظاته، فلم يجد وسيلة تُمَكِّنُه من تحقيق هدفه هذا سوى الفن، بشتى أشكاله وطرائقه وسبله وتجلياته..
فالصورة في لوحة، هي تأبيد للحظة حياة ماضية كانت في زمن التقاطها الذي مضى حاضراً..، وكذلك الحدث في رواية، والدفقة الشعورية العارمة في لحن موسيقي أو قصيدة شعر.. ففي رحاب الفن فقط، يمكن تصيير لحظة الحاضر مسرحاً سحرياً يمكن استحضار الماضي على خشبته وإحياؤه، كما يمكن عرض تصوراتنا للمستقبل..
كلنا يبحث عن الخلود، عن لحظة الأبدية، ولكن الفنان منا فقط، هو الذي يعرف أن هذه اللحظة هي نفس اللحظة التي نسميها الحاضر، والتي يظنُّ معظم الناس أنها عابرة، ولذلك نجد الفنان الحق يذهل عن كلِّ ما يسعى خلفه الآخرون من متع الحياة، مُكرساً جهده وعمره وموهبته لتثبيت واحدة أو أكثر من لحظات حاضره، وحين ينجح يشعر بسعادة لا يعرف مقدارَها أحد غيره، إنها سعادة دخول الأبدية.. سعادة الظفر بخلود، ولو مؤقت، في عالم فان يُسمى الحياة الدنيا..
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|