الخطر
[align=justify] الخطــــــــــــــــــــــر
وقفت عند عتبة الباب .. كان الفناء يعج بالنسوة وهن يتزاحمن للدخول أو الخروج .. في أقصى البهو ، جلست جارتنا فاطمة .. معصوبة الرأس .. منتفخة الجفن من كثرة البكاء .. عدت لتوي من المقبرة حيث وارينا جثمان ابنها البكر .. أردت أن أقوم بواجب العزاء قبل أن أستقل الحافلة إلى المدرسة لأستأنف العمل بعد أن طلبت رخصة ساعة لمرافقة الموكب الجنائزي بعد العصر.
أشارت إلي المرأة بالدخول .. قبلت رأسها فمدت ذراعيها تعانقني .. لم تقل شيئا .. كان كتفاها يهتزان على إيقاع نحيبها . لكنها استطاعت أن تتلفظ -وصوتها مختنق- ببعض الكلمات المتقطعة :
- أرأيت .. يا ابني ..؟ ضاع ولدي .. كما ضاع الآخران .. جاء دورهما .. لن يفلتا من الموت .
- اصبري يا أماه .. أجرك على الله .. لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .
لا أدري كيف استطاعت الاحتفاظ بقواها العقلية بعد الذي حدث .. ابن اختطفته يد المنون بعد إدمان لم يدم طويلا .. وآخر يتسكع في الطرقات معتوها .. والثالث لا يزورها إلا ليطلب نقودا قصد شراء ما يحتاجه من المسحوق الأبيض ، بعد أن يثير زوبعة من الشجار ويطال سبابه كل سكان الحي . وكأن قدر الثلاثة أن يصبحوا جميعهم عبيدا للمسحوق ، منذ هجر أبيهم للبيت ورحيله إلى الخارج وانقطاع أخباره هناك .
اجتازت بي الحافلة شوارع عدة قبل أن أصل .. لم تفارق عيني أشخاصا في مختلف الأعمار.. بنظرات زائغة أو بخطى تائهة .. وآخرين ممددين على سور الحديقة غير مبالين لا بحر الشمس و لا ببرودة المساء .. وفي لحظة شعرت وكأنني طرف في هذه المأساة . صرت احدث نفسي وأنا أقترب من المدرسة.. "وما الذي أستطيع فعله ؟ ".. لكن في داخلي كان يتردد صدى صيحة مدوية :
- بلى .. تستطيع فعل أشياء .. "
أول ما فعلته عند وصولي ، أني توجهت إلى الساحة حيث كان زميلي أستاذ الرياضة يقوم بتلقين قوانين كرة القدم لتلامذته .. أشرت له فجاءني لاهثا يمسح العرق عن جبينه :
- خيرا إن شاء الله ؟
- هل كونت الفريق الذي سيخوض غمار البطولة المدرسية ؟
- تقريبا .. لكن .. لم هذا السؤال ؟
- اسمع .. لدي مجموعة من التلاميذ.. شغفهم الكرة .. هل يمكنك تدريبهم ؟
- وهل أنت متأكد من مستواهم ؟
- لا .. ولكني أريد أن تقدم لي هذه الخدمة .
- لماذا ؟. هل حدث شيء ؟
- أوه .. كلا .. هو نشاط لا اقل ولا أكثر ..
- لكن الذي أعرفه هو أنك تهتم بالمجال الثقافي .
- نعم - ثم تابعت ضاحكا – وسوف أضيف المجال الرياضي إلى برنامجي .
تركته يحدق في مشدوها .. وذهبت إلى حجرة الدرس .. أخرجت لائحة التلاميذ وأخذت أدون أسماء البعض وأنا أتخيل إما عيونهم الناعسة أو أجفانهم المحمرة أو وجوههم المصفرة . ثم أخرجت كراسا يضم عناصر قدمت لي شكاية بهم من بعض زملائهم .. تذكرت قول أحدهم :
- أستاذ .. فلان وفلان يتعاطون المخدرات بمقهى الأحلام ..
- ألم أنبهكم إلى مقتي للوشاية ؟ .. ثم قل لي .. من أين علمت بذلك ؟
- اسأل الجميع يا أستاذ .. فالمخدرات تباع عند باب المدرسة وفي وضح النهار.
قبل انصرافي .. ناولت زميلي اللائحة ورجوته بعدم نسيان ما طلبته منه .
عند وصولي إلى الحي .. توقفت قليلا أراقب بعض الفتية يقفون أمام باب المقهى .. ينظرون إلى شاشة التلفاز العريضة وهي تقدم مباراة في كرة القدم .. قبل أن يفرقهم النادل بركلة لهذا وصفعة لذاك وتوعد للناجين منه ..
عادوا فتجمعوا عند باب العمارة التي أقطنها .. وحين اقتربت من الباب ، نظروا إلي مليا ثم نهضوا ليفسحوا لي الطريق .. شكرتهم ثم توقفت .. كدت أقول لهم شيئا لكني اكتفيت بشكرهم قائلا :
- شكرا .. امكثوا حيث أنتم .. لا بأس ..
دخلت البيت واستلقيت متعبا على الأريكة .. في نفسي شعور بالارتياح .. لماذا ؟ لا أدري .. كل ما في الأمر أني كنت متلهفا للقاء زميلي كي أسأله عما جد من جديد .. وفي انتظار ذلك .. قمت إلى مكتبي . أخذت ورقا وقلما وأخذت أكتب وأخطط .. نادي للقراءة .. نادي للكرة .. نادي البيئة .. اسم النادي .. الصقر .. الرعد .. الصداقة ..
بعد أيام .. اتصل بي زميلي :
- يا أخي .. لا دراية لهم بالكرة .. مجموعة من البلهاء ..
- ألا تصبر عليهم قليلا ؟ .. ربما ..
- لا فائدة .. الشيء الوحيد الذي يتقنونه هو أنهم أول من يحضر وآخر من ينصرف ..
- رائع – صحت متحمسا – هذا هو المطلوب .. أن يقضوا معظم وقتهم معك .
لم يفهم زميلي قصدي فرد بفتور :
- حسنا .. ليكن ما تريد .
حين انتهيت من الدرس استدعيتهم كلهم وقلت :
- من يريد أن يقبل كلاعب ، عليه أن ينفذ الشروط كلها .
تطلعت إلي الأعين في لهفة وفضول ، فتابعت :
- النوم الباكر والأكل الجيد .. عدم المكوث خارج البيت إلا للضرورة .. وسوف أكلف من يراقبكم في الحي .. موافقون ؟
- موافقون – صاحوا بصوت واحد .
عندما اندسست في فراشي ليلا .. كانت أحلام وردية كثيرة تغزو مخيلتي . وفي لحظة .. وجدتني أتمتم على غير وعي مني : " المهم أني قمت بشيء ما .. " قل إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت . وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم .".. صدق الله العظيم .. ثم استسلمت للنوم .[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|