أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
أقدار
أقدار
بين منى والبحر علاقة خاصة وحوار لا ينتهي وهي تجلس حيث ينكسر الموج . تبوح له بكل ما يؤرقها وهي مقبلة على مرحلة جديدة من حياتها . تبثه آمالها في عيش هنيء مختلف عما تعيشه بعض صديقاتها من خلافات لا تنتهي مع أزواجهن أو أهلهم . تفكر مليا في أسباب تلك الخلافات التي تصل أحيانا إلى حد القطيعة فتبدو لها تافهة وتحس بقدرتها على تجاوزها .
زوج منى ، أو خطيبها حسب المصطلح المعمول به رغم كتابة عقد الزواج ، يبدو لها مقبولا . وأهم ما جذبها إليه ، إضافة إلى القرابة التي تجمعهما ، صمته وميله للمسالمة . كانت أختها تقول مازحة :" ليس هناك أخطر من الماء الراكد". لكن تشجيع أسرتها ورزانته جعلتها أكثر اطمئنانا .
وهي الآن قبالة البحر ، تستدني حفل الزفاف لتنتقل إلى مقر سكناها وتتربع على عرش مملكتها . كانت تود لو يكونان معا ليتحدثا أكثر . لكن التزاماته العديدة كممثل لشركة الاتصالات تجعله دائم التنقل بين الشمال والجنوب . وكثيرا ما كان يصطحب معه ضيوفا من كل المناطق .
في المرة الأخيرة قبل سفره من جديد ، أخبرها أنه تعرف على صديق أندونيسي مقيم في هولندا ويعمل بشركة مستثمرة بالصحراء في مجال الطاقة الشمسية ، وأنه يفكر في استضافته . كان يحدثها عنه متنهدا وكأنه يغبطه على ما حققه من نجاح . ثم بدأ يشكو من بعض الصعوبات التي كانت تعترض مشروعه في إنشاء مقاولة خاصة به .
زيارة الضيف الأندونيسي كانت منعطفا لم يشعر به أحد سواها . بدا لها اليزيد أكثر وجوما وعصبية على غير عادته خاصة حين تناقشه في موضوع مشروعه وتنبهه إلى أن الأرزاق بيد الله وأن عليه ألا يقنط بسبب ما يمر به من ظروف . كانت تحس به يكاد ينفجر حنقا لولا تواجد ذلك الضيف الوديع الدائم الابتسام والهادئ طبعه ، مما جعل العائلة تستلطفه ولا تجد حرجا في مجالسته وتبادل الحديث معه رغم عدم دراية الجميع باللغة الانجليزية ما عدا أختها نجلاء .
أسفار اليزيد تكثر وتتضاعف وغيابه يطول ، ولم تعد منى تلمس فيه تلك اللهفة للعودة وقضاء فترة بصحبتها رغم قصرها . كانت تملأها فرحة قرب اعتلائها عرش مملكتها ، وكانت مشاريعه تدغدغ أحلامها في بناء عش الزوجية بكل تفان وتعهده بما يلزمه من عناية واهتمام . لكن حديثه صار يغلب عليه التشاؤم والتذمر وتغلفه سوداوية مقيته خاصة حين يكرر اسطوانته المعتادة .
- لا شك أن عينا أصابتني . أشعر أن نحسا يطاردني .
ترى لم يذكر هذا بصيغة المفرد ؟ ولم قلت اتصالاته الهاتفية منذ آخر زيارة له رفقة الصديق الأندونيسي ؟ هل يخفي تذرعه بكثرة الأشغال شيئا ؟ ..
تنظر إلى البحر وتتنهد . تحس بملوحة موجه فتنتبه إلى دمعة تنزلق على وجنتها ووصلت إلى شفتيها . هل يبكي البحر معها ويشاركها أحاسيسها ؟
"لا شك أن عينا أصابتني".. صارت العبارة على لسان كل من يعرف اليزيد . لكن أخ منى كان ينصت إليه مستغربا حين يضيف :"منذ نويت إكمال نصف ديني والأمور تسير من سيء إلى أسوأ" ، فيجيبه مبتسما في هدوء :
- أنا أؤمن بالعين لأنها حق .. لكن ليس كل من تزوج أصابته عين .. التجارة ربح وخسارة .. يوم لك ويوم عليك . بل قد يكون يوم عليك وأيام لك .
وضحك ، لكن الآخر واجما . ومنى التي تناهى إليها ما قاله اليزيد أحست بوخزة ألم وبكت ليلتها بحرقة رغم محاولة أمها تهدئتها وتبديد مخاوفها وشكوكها .
وبالإضافة إلى ما كانت تجده في زيارات الضيف من عزاء وهي ترى شغفه بالشاطئ يزيد ، فإن مجرد تواجده برفقة أخيها كان يشعرها ببعض الاطمئنان إلى أن الآخر أنابه في إبلاغها عن أخباره . بيد أن هذا الشعور بالاطمئنان لا يدوم طويلا ، وتهرب الأندونيسي من التحدث في موضوع يخص اليزيد يضاعف من قلقها ، فكان لا بد من المصارحة والمواجهة .
لكن الضيف اعتذر بلباقة عن إبلاغ اليزيد رغبتها في قدومه في أقرب أجل . وبدا جليا أن العلاقة لم تعد بتلك المتانة بين الرجلين ، فقامت أختها بمهمة الاتصال به .
"أهكذا هي الأصول ؟ تغيب كل هذا المدة ولا تتصل وكأننا لسنا متزوجين ؟ ماذا سيقول الناس عنا ؟"
وكعادته ، التزم اليزيد الصمت ، لكن في عينيه ومض بريق غريب ينم عن قسوة وعدوانية ، قبل أن يجيب أخيرا :
- اسمعي ..يجب أن تعرفي أن أموري ساءت كثيرا ..
- وما ذنبي أنا ؟ وكأنني المسؤولة عما يحدث لك ..
- ربما .. ألا ترين أنني منذ ارتبطت بك لم أعد أعرف للربح وجودا ؟
انتفضت منى كالملسوعة ثم هبت واقفة وصاحت به :
- كيف تجرؤ ؟ .. تعني أني طالع نحس عليك ؟
لم يجب وعاد للصمت من جديد . رمقته لحظة والشرر يتطاير من عينيها ونزعت خاتمها وألقت به على وجهه ثم انصرفت .. لكن قبل أن تغيب عنه التفتت إليه قائلة في برود :
- لعنة الله عليك .. تحسب بنات الناس لعبة .. حسبي الله ونعم الوكيل .
انصرفت صامتة ، لكن صمتها كان أشبه بنحيب . الخبر يقع على العائلة كالصاعقة . ويتكفل الأخ بالتحدث إلى اليزيد أملا في إصلاح ذات البين . لكنه يسمع نفس العبارة "منذ ارتبطت بها ساء كل شيء"..
- لا تقل هذا يا أخي – يرد الآخر في هدوء – كل شيء بأمر الله .. وهذا ليس ذنبها كما تعرف .
- الأمور واضحة والواقع يقول هذا .
- ومال العمل في رأيك ؟
- كل شيء قسمة ونصيب .. لا أظن أن حياتنا سيكتب لها الاستمرار ..
- فليكن .. وخير البر عاجله .
انزوت منى في غرفتها تبكي ، وتجمعت الأسرة تنصت إلى تفاصيل الحديث الذي دار بين الشابين ، والأندونيسي يهز رأسه مستنكرا ما تترجمه له الأخت . صار لا يفارق البيت منذ خطبته لنجلاء وبدأ يتعلم بعد التعابير الدارجة . وحين تعود منى إلى الشاطئ تحس من البحر وجوما فتبكي بحرقة ، ويطول حزنها أياما وأسابيع ، رافضة الحديث إلى أحد سوى أسرتها ومعرضة عن كل من جاء يطلب يدها .