تتراوح شخصية جُحا ما بين الحقيقة والأسطورة والخيال؛ فما هو سرُّ تواطؤ الناس على حب شخصيته؟ هل هي خفة دمه؟ أم حكمته؟ أم غرابة حكاياته ونوادره، رغم أن بعض نوادره تُظهره في صورة المغفل الأحمق؟
هل السر في أنه يقدم حكمته من خلال حكاياته الشيقة التي تمتزج بها النصيحة المحضة مع الدعابة، والحكمة مع البلاهة، فيكاد المرء يحار من أين يبدأ الذكاء الفطري الإنساني وأين ينتهي ليكون إلى حد السذاجة؟
وكيف يكون حاضراً عند الشعوب غير العربية، رغم أنه شخصية عربية أساساً؟ ولماذا يرتبط بحماره الذي لا يفارقه؟ وهل لهذا معنى، أم هي مجرد صدفة؟
إنَّ جُحا صورة للفيلسوف البسيط، والحكيم الذي يهزم صرامة الواقع وصلفه بالانتباه، فلا ينسجم مع المألوف، ويعمل على تعريته بالسخرية منه.
ومجموع نوادره، لا يمكن أن تصدر عن شخصية واحدة، لتباعد البيئات التي تُروى عنها. فما وصلنا عنه من أخبار وحكايات لا يمكن أن تكون جاءت من شخص واحد، فطرائف حكاياته تحمل سمات العصر الأموي والعباسي والعثماني، ومن زمن أبي جعفر المنصور إلى عصر تيمورلنك؛ في ظروف متباينة، حسب الإطار الزماني والمكاني للنكتة أو الطرفة (انظر: جحا الضاحك المضحك: لعباس محمود العقاد ص127-171).
وبالتالي، فشخصيته هي نتاجُ عقلٍ جمعي على مدى العصور: منذ بواكير الإسلام إلى زمننا الحاضر؛ صيغت بأكثر من صورة في البيئات العربية والتركية والفارسية والألمانية وغيرها؛ وكان لكل بيئة نموذجها (الجحوي)، تتحدَّث بلسان ناقد سياسي واقتصادي واجتماعي، بأسلوب ساخر، يهوّن على الناس ما يعانونه من مآس وآلام. أي إنَّ الوجدان الجمعي للشعوب، هو الذي صاغ ـ على مدار عقود طويلة ـ، رمزاً فنياً ساخراً، جمع بين الذكاء اللمّاح والتهكّم، فكان، عبر تاريخ القمع والتسلط والخوف من الحاكم، تجسيداً حياً لمعاناة الناس عبر العصور؛ واختزالاً تعبيرياً لصورة احتجاجهم بقالب النكتة الموظفة سياسياً؛ وانعكاساً لآرائهم في السلطتين العسكرية والسياسية، وهما السلطتان المؤثرتان في الحياة اليومية.
** ** ** **
أولاً: جُحا العربي
جُحا العربي: هو أبو الغصن دُجين بنُ ثابت اليربوعيُّ، تابعي، وُلد في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري سنة (60 هـ)، وقضى الشطر الأكبر من حياته في الكوفة، وتوفي فيها في خلافة أبي جعفر المنصور عام (160 هـ). رأى أنس بن مالك، وقال البخاري: سمع من أسلم مولى عمر، وروى عنه مسلم وابن المبارك (التاريخ الكبير للإمام البخاري 3 / 257). وروى الجاحظ نوادر بطلها جُحا دون أن يترجم له (القول في البغال ص37).
وقال ابن الجوزي: رُوي عنه ما يدل على فطنة وذكاء، إلاَّ أنّ الغالب عليه التغفيل، وقد قيل: إنّ بعض من كان يُعاديه وضع له حكايات، والله أعلم. وقال يزيد بن أبي عبيد الأسلمي (ت: 147 هـ): رأيت جُحَا رجلاً كيِّساً ظريفاً، وهذا الذي يُقال عنه مكذوب عليه، وكان له جيران مخنثون يُمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه (أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي ص19).
وقال الذهبي: أبو الغصن صاحب النوادر دُجين بنُ ثابت اليربوعيُّ البصريُّ، قال عبّاد بن صهيب الكليبي: حدّثنا أبو الغصن جُحا - وما رأيت أعقل منه - قال كاتبه: لعلّه كان يمزح أيام الشبيبة، فلمّا شاخ، أقبل على شأنه، وأخذ عنه المحدّثون (سير أعلام النبلاء 8 / 172)، وعبّاد بن صهيب الكليبي: ذاهب، متروك الحديث، لكن حديثه يوافق حديث الثقة يزيد بن أبي عبيد الأسلمي ولا يعارضه.
فهذا الذي نُسِب إلى جُحا من نوادر وفكاهات كان سبباً لجرحه عند رجالات الجرح
والتعديل، ولذلك قال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال الدارقطني وغيره: ليس بالقوي (الجرح والتعديل 2 / 456، تهذيب التهذيب 2 / 13، ميزان الاعتدال 1 / 266).
فما نُسِب إليه من نوادر وفكاهات مما لا يليق براوي الحديث، وليس مستبعداً أن يكون سبب مما زيد عليه عداوة أهل البصرة مع أهل الكوفة.
وقال عبد الوهاب بن أحمد الشعراني (ت: 973 هـ) في كتابه (المنهج المطهر للقلب والفوائد): عبد الله جُحا تابعي، كما رأيته بخط الجلال السيوطي - الذي ألّف كتاباً عن جُحا، جواباً لسؤال ورده مستفسراً عنه، جَمع فيه القصص المنسوبة إليه، سمّاه (إرشاد من نحا إلى نوادر جُحا)-، قال: وكانت أمّه خادمة لأم أنس بن مالك، وكان الغالب عليه صفاء السريرة (القاموس المحيط: جحا)، وقال السيوطي أيضاً: وغالب ما يُذكر عنه من الحكايات المضحكة لا أصل له (تاج العروس 19 / 271، وانظر: عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي 373 وما بعدها).
** ** ** **
ثانياً: جُحا التركي
جُحا التركي: هو نصر الدين خُوجة، ويُسمَّى أيضاً: جُحا الرومي. وهو معلم وفقيه وقاض (الموسوعة العالمية، ص226). ولد في قرية صغيرة غرب أنقرة تدعى خورتو سنة (605 هـ) وتلقّى علومه فيها، ثم وليَ القضاء في بعض النواحي المتاخمة لها، كما ولي الخطابة في (سيوري مصار)، وعُيّن مدرّساً وإماماً في بعض المدن.
وكان أحد الزهّاد، يعمل في فلاحة الأرض ويحتطب بنفسه. كما كانت داره محطة للعابرين الغرباء وأهل الدار من الفلاحين. وكان من كبار العلماء الأحناف، تُعقد في بيته مجالس تعليم الفقه، وتتلمذ على يديه أكثر من 300 تلميذ فدُعي بـ "المعلم" وغلب عليه اللقب؛ لذلك اشتهر بين أهل تركيا بالخوجة (نوادر جحا الكبرى: حكمت شريف الطرابلسي 17).
أمَّا اقتران اسمه بالسخرية والنوادر، فيعود إلى أسلوبه في الموعظة التي كان يصوغها في قالب النكتة والنوادر، وكان لها صدى في قلوب الناس وأحبوها، ولم يغض ذلك من شخصيته، أو كانت سبباً في جرحه، بل كان ذلك يُضاف إلى محمود صفاته، فشُبّه بجحا الأول الذي ورد ذكره عند الجاحظ.
وقد لعب جحا التركي، عبر دوره كقاضٍ، أدواراً اجتماعية تحسب له في مساندة الكثير من الناس وردّ مظالمهم، متخذاً ذكاء طابعه الموعظة والطرافة، ومستفيداً من موهبته في هذا الجانب. فقد كانت له جُرأة على الحكّام والأمراء والقضاة الذين كان يدعوهم إلى الالتزام بنهج الشرع الحنيف، ويحضّهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وبفضل علمه الغزير ـ الذي اعترف به علماء الأناضول ـ استطاع الوقوف في وجه (تيمورلنك) والتصدي له في العديد من المواقف، فأَنقذ بذلك العديد من الناس من بعض مظالمه.
وتوفي سنة (683 هـ)، وضريحه في مقبرة آق شهر الكبرى، وتبعد عن أنقرة 233 كم غرباً (جحا العربي: محمد النجار ص53)، فالواجب توقيره بصفته قاض وفقيه، وإنزاله المنزلة التي تليق به لا السخرية منه؛ لأن تصويره بشكل كاريكاتوري فيه انتقاص من شأنه كعالم، وتغييب لدوره الإصلاحي في المجتمع من توعية الناس، ومواجهة الطُّغاة والحكّام.
** ** ** **
ثالثاً: جُحا الفارسي
قال البرفسور مكايل بيرم التركي، وهو من أصول إيرانية: جُحا هو الملا ناصر الدين محمود الخوئي من مقاطعة أذربيجان في إيران، أرسله الخليفة في بغداد لتنظيم المقاومة ضد الغزو المغولي. وبعض الكتاب الإيرانيين يقول إنه من أهل أصفهان واسمه مشهدي (جحا: عبد الستار أحمد فراج، دراسة وتحقيق، القاهرة 1966، ص 22). ** ** ** ** **
رابعاً: جُحا في الثقافة الألمانية
يعتبر أويلنشبيغل Till Eulenspiegel أشهر شخصية ساخرة في الأدب الألماني، ونوادره مثل نوادر جحا العربية. لكن لا يُعلم على وجه اليقين: هل كان موجوداً حقاً، أم هو شخصية خيالية؟ فقيل هو الراهب الفرانسيسكاني توماس مورنر، وأكد آخرون أنه جابي الضرائب هيرمان بوته. بينما يعتقد باحثو الأدب أن العمل بشكله الحالي ليس من تأليف كاتب واحد، بل إن عديدين شاركوا في صياغته، تماماً مثلما شارك مؤلفون كثيرون في صياغة "ألف ليلة وليلة". وأنَّ أتباع المذهب الإنساني في الأدب هم من حوّروا شخصية أويلنشبيغل وجعلوها مشهورة خارج الحدود الألمانية.
فهو أديب مرح ساخر ماكر، اجتذبت كتاباته آلاف القراء في ألمانيا وفي عديد من بلدان العالم، وترجمت نوادره إلى أكثر من مئة لغة. قالت شارلوته بابندورف مديرة متحف "تيل أويلنشبيغل": هذه الشخصية ساحرة بالنسبة لي، لأنَّ تأثيرها يتعدى الأجيال، فتجد الصغار والكبار معجبين بها. هذا شيء رائع لأنه يتعدى الحدود والزمن.
وقال البروفيسور السويسري ألكسندر شفارتس، أستاذ اللغويات في جامعة لوزان، والذي يدرس ظاهرة "جحا الألماني": منذ ما يزيد على ربع قرن اعتُبر كتاب أويلنشبيغل أقدم نص ألماني سردي، وظل مشهوراً وناجحاً على مر القرون، ليس فقط في المنطقة الألمانية.
فـ "جحا الألماني" شخصية أدبية عالمية، وسر نجاحه يعود إلى اعتماده الأساس على المسرح الكلاسيكي، وهو إلقاء الدروس الأخلاقية في صورة ممتعة مضحكة، فيعايش القارئ عن كثب الحياة اليومية في القرن السادس عشر بكل تفاصيلها، ويتعرف على حياة الحرفيين والأمراء وما يجري في الحانات والمطاعم.
فجحا الألماني شخصية متمردة ساخرة، خلط النقد الاجتماعي بالمرح، وانتهك محرمات كثيرة سائدة في عصره، وصاغ جميع نوادره بلغة ساخرة، لا يملك القارئ معها سوى الابتسام أو القهقهة، فهو لا يكف عن السخرية من الناس وصنع "المقالب" الماكرة لهم.
وقد طبعت نوادره أول مرة في مدينة ستراسبورغ في عام 1510. وترجمت خلال القرن السادس عشر إلى كافة اللغات الأوروبية تقريباً، وكانت في كل لغة تشهد تحويراً وتغييراً لتناسب البيئة والعقلية المحلية:
ففي أرمينيا: هو أرتين صاحب اللسان السليط.
وفي إيطاليا: هو برتلدو.
وفي بلغاريا: هو غابروفو المحبوب.
وفي بولندا: تغير مسقط رأس أويلنشبيغل من كنايتلينغن – كما جاء في الأصل الألماني – ليصبح مدينة كنيتوفيتش البولندية.
وفي روسيا: هو بلدكييف.
وفي مالطا: هو جوهان.
وفي اليونان: هو ديوجين.
وفي الهند: هو الشيخ تشللي.
وفي هولندا: تحول أويلنشبيغل إلى مناضل من أجل الحرية، اتساقاً مع النضال الذي كانت تخوضه هولندا ضد الإسبان، أي أنه تحول إلى شخصية هولندية.
وفي يوغسلافيا: هو آرو المغفل.
إلى ثلاثين اسماً آخر، بثلاثين لغة من لغات مختلفة لبلدان مختلفة في العالم، تمتد من القوقاز إلى البلقان، إلى آسيا الوسطى.
كما شهدت نوادره ترجمات عديدة إلى اللغة الانكليزية، وعرفت طريقها إلى أمريكا خلال القرن التاسع عشر، وإلى بقية أنحاء العالم في القرن العشرين. وتعتبر الترجمة اليابانية أهم الترجمات على الإطلاق، مثلما يؤكد المؤرخ الألماني بنرد أولريش
هوكر، لأمانتها بترجمة التفاصيل الدقيقة التي تنم عن عناية بالغة في الترجمة. ويُلاحظ أنَّ شخصيات جُحا، بأسمائها المتعددة في تلك الأمم، ولدت واشتهرت في القرون المتأخرة، مما يدل على أنها كوَّنت شخصياتها بناءً على شخصية جحا العربية الذي سبقهم. ويعضد ذلك أن الطرائف الواردة في كتاب "نوادر جُحَا" المذكور في فهرست ابن النديم (ت: 377 هـ) هي نفسها المستعملة في نوادر الأمم الأخرى، لم يختلف فيها غير أسماء المدن والملوك وتاريخ وقوع الحكاية، مما يدل على الأصل العربي لهذه الشخصية.
(انظر:
http://www.mexat.com/vb/showthread.php?t=935429
** ** ** ** **
حمار جُحا
ارتبطت شخصية جُحَا بحماره الذي لا يفارقه، فهو ينقل عليه أغراضه، ويركبه للانتقال بين القرى والمدن. والأهم من هذا أن الحمار كان شخصية رئيسة في معظم النوادر التي رواها الناس عنه وتناقلوها على مرور الأجيال.
فربما كان سبب اختيار جُحَا للحمار بالذات هو أن الناس يضربون به المثل في الغباء، فأثبتَ جُحا في العديد من حكاياته أن الحمار يتمتع بذكاء يفوق ذكاء الإنسان. وبالتالي، علينا ألاَّ نظلم أحداً بالحكم عليه بصفة سيئة لمجرد أن الناس من حولنا يصفونه بذلك. وألاَّ نسئ الظن بأحد إلاَّ بعد أن نرى بأنفسنا إنْ كان يستحق ذلك أم لا. وأخذ توفيق الحكيم (ت: 1987) هذا المعنى فألف سنة (1940) رواية: حمار الحكيم، ثم في سنة (1945) نشر كتاب: حماري قال لي.