المفتاح
[frame="10 98"]
[align=justify]
قلبه ينبض بما تبقى من حلم.. عيناه تذهبان في صفحة النهار وتشدان على خيوط الأمل.. زوجته أم الربيع تقص الكثير عن البلد والتاريخ والجذور، لترى في عينيه حلماً أكبر من عمره بكثير.. وحين يسمع أبو الربيع ما تقول بعد كل هذه السنوات الطويلة ينبض القلب بالحلم ويقول: "هؤلاء الأولاد يعرفون كيف يعشقون أيضاً".وارتسمت صورة ربيع في عينيه.. ليعود إلى الحلم الذي بناه خلال سنوات.. ليعود إلى الزهرة التي لونها بأيام عمره، وأعطاها ما أعطاها من انتظار وصبر وحب..
حين ولد الربيع، بعد زمن اللجوء بسنة واحدة، أصر على اسم "ربيع".. كان يقول أن العودة إلى البلاد قريبة، وعندها سيعيش الربيع ويكبر.. الربيع يناسبه هواء البلد.. الجيران في المخيم سمعوا الكثير منه.. عرفوا عن إيمانه الشديد بالرجوع.. كان يخرج المفتاح الكبير من جيب بنطاله الخاكي ويناوله إلى واحد من الجيران.. ثم إلى آخر.. وهكذا.. كان كل واحد ينظر إليه ويتأمله، ثم يرسل تنهيدة طويلة ويطبع قبلة عليه.. لم يكن أبو الربيع مثلهم.. كان يرفع المفتاح، يديره في الهواء كأنه يفتح باب البيت هناك.. ولكي تكتمل الصورة يخرج من فمه صوتاً يشبه صرير الباب وهو يفتح.. ثم يدفع الباب المتخيل بيده.. يخطو خطوات إلى الأمام. يصيح: "يا الله يا ستار.. تفضلوا يا رجال على الرحب والسعة.. حياكم الله..".. وكان الجيران يدخلون مأخوذين بخيال الرجل. وعلى التراب أمام الخيمة يجلسون، وكأنهم يجلسون هناك في البلد في بيت أبي الربيع.. وما أن تصحو العيون من شرودها، حتى ترى خيوط الدمع فوق الخدود.. وكل واحد من الرجال يداري دمعه بيده.. فالرجال لا يبكون.. لكن كيف لهم أن يوقفوا دمع الحنين هذا؟؟..
الولد ربيع دخل المدرسة.. وكان الرجل لا يتركه يذهب ويعود وحيداً.. يضع يده في يده ويمشي.. في الطريق يحدثه كيف سيعودون إلى هناك، إلى البيت والشارع والجيران، يحدثه عن الشجرة والبندقية.. كان يظن في بادئ الأمر أن الولد لا يفهم.. لكنه رأى بعد حين أن الولد يشرب كل شيء.. فأخذ يحدثه عن أشياء كبيرة.. وحين يلتقي الجيران يحدثهم عن الولد الذي سيصبح محامياً قديراً يدافع عن الحق.. ويقسم بالله أن الولد لا يدافع إلا عن الحق.. وتزداد الحماسة فيدخل في مرافعة لا مثيل لها.. ولا يجلس إلا والعرق يتصبب من كل بدنه..
الولد ربيع الذي كبر واشتد عوده، لم يذهب في الطريق الذي يوصله إلى مكتب المحاماة، بل اختار الطريق الذي يوصله إلى البلد.. ذات مساء حمل البندقية ورحل.. مرات عديدة حمل البندقية ورحل إلى هناك.. وكلما عاد كان الرجل يضمه إلى الصدر ويرقص البيت فرحاً بالولد الذي يحمل رائحة البلد.. مرة طلب منه أن يأخذه إلى هناك.. وعده الربيع أن يفعل.. وأخذ الرجل يحلم بالذهاب إلى هناك.. كان يمشي رافع الرأس في الشوارع التي عرفها وعرفته.. كان الولد يعده.. وهو ينتظر ويحلم.. يخرج المفتاح من جيب بنطاله الخاكي ويحلم.. يرى البيت ويزرع صورة شجرة برتقال في صدره ويحلم.. وذات مرة حين عاد الولد الذي كبر مضرجاً بدمه، بكى بحرقة لا يعرفها أحد سواه.. كان الربيع ما يزال ممدداً أمام عينيه.. أخذ يدور حوله وينشج.. أخرج المفتاح ورفعه إلى الأعلى.. لمع المفتاح حين انعكست عليه أشعة الشمس.. أضاء.. توهج.. ارتسمت على الشفتين ابتسامة.. وقتها عرف الرجل أن الحلم لم يمت.. انحنى على الولد الذي كبر وضمه إلى صدره.. ثم أسرج حصان الحلم من جديد..
[/align]
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|