الدموع
لم يكن يعلم أن الأمر بهذه البساطة .. ما أن جذب قطعة المعدن البارزة والمسمّاة ((الأقسام)) حتّى استقرّت الرصاصة في المنجل. فتح شبّاك بندقيته وحدّق في داخلها، كانت الرصاصة هناك تبتسم. غمزت ثمّ هزّت طرف ذيلها العريض. أغلق الشبّاك بسرعة، فقد كان يخشى الظلمة والأماكن الضيقة. نظر الى البعيد ثمّ علّق حزام الرشّاش على كتفه ومضى يبحث عن فريسة.
توقف عند مدخل القرية، تناول علبة سجائره الأمريكية وتأمّلها. لاحت على شفتيه ابتسامة أضفت على تقاسيم وجهه قسوة زائفة. أشعل سيجارته وأعاد العلبة الى جيبه، طاف بعينيه القرية، دخل ساحة البلدة ثمّ المسجد، جلس عند العتبات الصغيرة القابعة أمام البيوت. سار في الشوارع الخالية إلاّ من القطط الجائعة وامرأة تحمل على رأسها جرّة ماءٍ فخّارية. ضحك، وسرعان ما صمت، فقد كانت ضحكته يتيمة ووحيدة. شعر بخوفٍ مفاجئ وصاح "ما الذي أفعله هنا؟". أحسّ بوخز يسري في جميع أنحاء جسده، ملمس المعدن كان ناعماً، رفع اسطوانة البندقية وحدّق داخلها. الرصاصة ما تزال هناك، منظرها غريب ومضحك. من الذي أوجد هذه المعادلة، الزناد والرصاصة مقابل امرأة وجرّة ماءٍ من الفخّار. كتلة من المعدن البارد ونهدين.
انطلقت الرصاصة تلعلع فرحة .. أخيراً فرّت من عقالها بعد أن أحرقت النار مؤخرتها .. تلفتت حواليها، العالم يركض الى الخلف والمرأة تدندن مغمضةً عينيها.
_ لماذا هذه المرأة بالذات؟ العطش يتسلل الى أحشائه، والماء سرعان ما يندلق على الرصيف ليمتزج مع سبيل الدم. صمتت الرصاصة وماتت هناك بين النهدين. كان الذعر مرسوماً في عينيها، فمها مفتوح على مصراعيه، صرختها قصيرة وبائسة.
جلس الى جوارها .. هل يُعْقَلُ أنها ماتت بهذه السرعة، تحسّس شعرها الأسود المسترسل ثمّ سحب يده مذعوراً. كانت يده مصبوغة بالدم الذي يملأ المكان. رمى الرشاش جانباً وأخذ ينفض يديه. دار حول نفسه، تعرقل بضحيته التي لم تكمل صرختها ووقع أرضاً. فتح عينيه مجدّداً، شاهد إصبع يدها الصغير الأيمن ينبض. حدّق في وجهها وصرخ. انهالت الدموع على وجهه وغاب في هستيريا من النواح والعويل. وبعد قليل، أحسّ بيدٍ تستقر على كتفه وتربّت بحنان. أجفل وهبّ واقفاً. لم يفاجأ حين شاهد أمامه جندياً آخر يبتسم وعلى كتفه هو الآخر رشاشاً، يداه ملطّختان بالدماء وفي عينيه دموع لم تجف.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|