بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على حبيب الله وصفيه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
-----------
مقدمة في الأدب الروحي
للعلامة الأديب الكبير الشيخ عبد الكريم عويضة الطرابلسي
قبل أن يدوّن التصوف الإسلامي كعلم كثير المباحث متعدد الأبواب ، وقبل أن تجري على ألسنة المتصوفين اصطلاحات اليونان والفرس والهنود وبعض الأديان ذات النزعة الروحية، كان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم المنبع الأول للحياة الروحية التي تميل إلى الاعتدال والتوسط، وتكره الافراط والتفريط.
ومما لا ريب فيه أن العناصر الأجنبية الدخيلة على الإسلام ، هي التي جعلت بعض المتصوفين يذهبون مذاهب تنافي الدين الحنيف ، لأن الثقافات المختلفة ، والعقائد المتباينة ، طبعت على قلوب المطلعين عليها من الصوفية طابعاً تقليدياً غير أصيل ، كان مزيجاً من آراء ونظريات ، وشطحات وسبحات.
-------------
ولو كان هذا الديوان الذي نكتب بين يديه هذه المقدمة ، من التصوف الدخيل الذي يسبح في الشطحات سبحاً طويلاً ، لوفرنا على يراعنا كتابة هذه السطور ، لأننا لا نشجع قولاً يعارض الدين ، أو يناهض العقل والمنطق والفطرة .
ولو جربنا على صاحب الديوان كذباً في الحديث ، أو دجلاً في الدين ، أو غشاً في المعاشرة ، لجابهناه بدلاً من مدحه ، وعارضناه عوضاً عن الثناء علي.
ولكننا - في الواقع- أمام أدب روحي فيه روعة وجمال ، وفيه بهاء وجلال ، وفيه بيان عذب وسحر حلال . فاخترنا أن نكتب كلمة موجزة عن هذا الأدب الروحي لعلنا نخفف منغلواء المادة المسيطرة على النفوس ، ونذكر اخواننا بمعاني الحق والخير والجمال تجري بها عيون الأذواق ، وتلوج بها مكاشفات الأرواح!
من المعروف أن للعشاق رموزاً بها يتفاهمون ، وكثيراً ما تفصح تلك الرموز غمزات العيون ، على حد قول أمير الشعراء شوقي ( رحمه الله ) حيث يقول:
وتعطلتْ لغةُ الكلام وخاطبت.........عينيّ في لغةِ الهوى عيناكِ
تلك حال العشاق وهم بين فتى مولع وفتاة مشغوفة بفتى ، فكيف بقوم يشقون الذات الالهية إلى حد الفناء؟ وكيف بقوم تحركهم الجذبات الروحية ، واللمعات الالهية ، حتى يقول قائلهم :
أدينُ بدين الحب أنّى توجهت ، ..........ركائبهُ فالحبّ ديني وإيماني
ألا إن أولئك القوم هم أهل الوجد حقاً ، وهم العشاق الأوفياء ، والخلان الأصفياء ، فلا بد لهم من لغة خاصة بهم ، واصطلاحات يتفقون عيها فيما بينهم ، ورموز أشبه بكلمة السر في مجالسهم ، ولا بد لهم - بالتالي - من أدب خاص بهم يستمد فلسفته ومناجاته من روحهم التي أحرقتها نار الوجد.
ولعلّ من أروع الأمثلة على هذا قصيدة يحيى بن حبش السهرودي ، 587هـ
والتي نذكر منها قوله:
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
..........................حتى دُعوا وأتاهم المفتاحُ
لا يَطربون لغير ذكر حبيبهم
.........................أبـداً فكل زمـانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
.......................فتهتكوا لِما رأوا وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كُشفت لهم
......................حُجُب البقا فتلاشت الأرواح
ففي البيتين الأخيرين من لغة الصوفية الحضور والغيبة والشهود والتهتك وتلاشي الروح ، وإنما لجئوا إلى هذه الاصطلاحات التي شرحوها شروحاً خاصة ، لأن الاشارة والرموز والتشبيه والتمثيل أمور تنسجم مع طريقهم في النظر إلى بواطن الأشياء ، وفي الترجمة عما دقّ في الضمائر واستكن في السرائر.
والواقع ، أن لغة القوم - وقد اصطبغت صبغتها التي امتازت بها عن سائر اللغات في الترجمة عن الشعور - أحوجت كل قارئ لأدبهم المنثور أو المنظوم المتضمن آرائهم وفلسفاتهم إلى قاموس أو معجم يشرح كثيراً من ألفاظهم ليعرف ما تجيش به نفوسهم ، وقد تطوع لهذا العمل العظيم بعض شعراء الصوفية ، وقد يدهش القارئ إذ يعلم أن كان أكثرهم من الفرس ، لا غرابة ، فان اصطلاحات الصوفية لا تختلف في الفارسية عنها في العربية ولا التركية ، لأنها رموز لقوم بأعينهم لا يفرق بينهم اختلاف الجنس أو اللون أو الاقليم ، فقد ألف الله بين قلوبهم في عشق الذات الالهية ، فأحبوه وفنوا فيه ولم يعودوا يذكرون إلا كلمات الشوق التي اصطلحوا عليها للتعبير عن وجدهم به سبحانه.
وهذا يفسر لنا لماذا أقبل القوم ، حتى العرب منهم ، على منظومة الشيخ محمود الشبستري التي نظمها شعراً في اصطلاحات الصوفية تحت عنوان : ( كلشن راز ) أي ( حديقة السر ) بل إن هذه المنظومة كانت سبباً مباشراً في تأليف معاجم لرموز القوم ، لأن البعض نثروها وجمعوها و زادوها توضيحاً.
ومن الثابت لدى المشتغلين بالأدب عامة والأدب الروحي خاصة أن الفرس قد فتح عليهم في هذا المضمار الصوفي فتحاً مبيناً ، فليت شعري ما سبب ذلك؟
يبدو لنا أن أوضح الأسباب إقبال الفرس في تصوير عواطفهم الروحية على الشعر لا النثر ، و مما لا ريب فيه أن للشعر سبحات وتحليقات تشبه سبحت الصوفية وتحليقاتها ، أو لفة الشعر أكثر طواعية من لغة النثر للتعبير عن معان خفية دقيقة في صور مشرقة طريفة . لذلك لا ندعي أن العرب قصروا عن الفرس كثيراً في الأدب الروحي ، وإنما نرى أنهم - بانصرافهم فيه إلى النثر - لم ينطلقوا انطلاقات الصوفية الأعاجم كأبي سعيد بن أبي الخير الخراساني ( 357 - 440 هـ ) وعبد الله الأنصاري المتوفي سنة 481 هـ ، ومجد الدين سنائي الغزنوي المتوفي سنة 545 ، وجلال الدين الرومي شيخ شعراء الصوفية الشهير وعبد الرحمن الجامي المتوفي سنة 898 .
على أن في شعراء العربية علماً غلب عليه التصوف فكان - باعتراف الجميع - إمام هذا الأدب الروحي : ألا وهو ابن الفارض الغني بشهرته غن التعريف به ، ومع أن ابن عربي لم يكن شاعراً مطبوعاً فإنه نظم كثيراً ، وخلع عليه الوجد حللاً من الشعر في ( ترجمان الأشواق ) تتفات قوة وجمالاً وإشراقاً ، ولعلّ ألطف ما قرأنا له قوله :
ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقعٌ ..............يشير بعنّاب ويومي بأجفانِ
ومرعاه ما بين التراب والحشا ..............ويا عجباً من روضة وسط نيران
لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ ............... فمرعى لغزلانٍ وديرٌ لرهبان
وبيـتٌ لأوثـان وكعبـة طـائـفٍ .............. وألواح توراةٍ ومصحف قرآن
إلى أن يقول :
أدين بدين الحب أنى توجهت ..............ركائبه فالحب ديني وإيماني
أما عبد الغني النابلسي والشهرزوري والسهر وردي ، فإن لهم في الأدب الروحي جولاتٍ نطرب فيها لصدق وجدهم ، أكثر مما نطرب لجمال شعرهم .
---------------------
بيد أن الذي يريد حقاً أن يتبع أقوال الصوفية ، وأن يتمثل صورة صادقة عن حياتهم ، وآدابهم وفلسفاتهم . فلا غنى له عن استعراض تلك السلسلة التاريخية التي بدأت بالحسن البصري ومن تبعه ن الزهاد .
وليمرن في حلقات السلسلة برجال مشرقين كتبوا في الأدب الروحي كلمات وكتبا وأدعية تخلد ما خلدت الروح . نذكر من هؤلاء على سبيل الاجمال : معروفاً الكرخي ، وبشراً الحافي ، والسري السقطي ، والجنيد البغدادي والشبلي ، وأبا يزيد البسطامي ، ولحق بهؤلاء كالنفري ، وأبي الحسن الشاذلي وابن عطاء الله السكندري وابن عربي طبعاً الذي سبقت الإشارة إليه . والإمام الابوصيري ، والبرعي ، ومن انتظم في سلكهم حتى اليوم
ولسنا بسبيل احصاء الذين اشتغلوا بالأدب الروحي المنثور من العرب ، وإنما أومأنا إلى اولئك ايماءة عابرة أردنا بها أن نسجل الحقيقة التالية: وهي أن العرب خدموا هذا اللون من الأدب نثراً كما خدمه الفرس نظماً وشعراً.
-------------
شاعرنا المهيّم حقاً بمناجاة الحبيب ( صلى الله عليه وسلم ) يهدينا إلى صرف النظر عن ظاهر تلك العبارات ، ويرشدنا إلى استشفاف الباطن ، ويذكرنا بأن هذه الأمور والألوان والأشكال إنما هي وسائل للتعبير عن معان في عناية الدقة ، وعن عواطف في عناية السمو والنبل ورهافة الحس.
فإذا كتبنا مثل هذه المقدمة عن ( الأدب الروحي ) لديوان ( مناجاة الحبيب ) فلأننا نرحب بهذا اللون من الأدب الشعري الذي يأت متزناً ومستلهماً صفاء الروح في عصر غلبت فيه المادة، يصدر عن عربي قحٍ سليل الأسرة الرافعية ( الفاروقية ) الشهيرة في الأقطار والأمار ( من أحفاد عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما ) والذي نرى أنه أجدر أهل هذا العصر بلقب :
((مجددالأدب الروحي في دنياالعرب))