ما جرى في القامشلي في 12 مارس 2004، من صدامات عربية ـ كردية، بالإضافة لاستمرار غليان المرجل العراقي وعدم التوصل لحل نهائي لمطالب ّالقبائل" في الجزائر، يعطي نظرة واضحة على أن مشاكل الأقليات لازالت قائمة بعد عقود من الزمن على قيام دول الاستقلال، ويصح القول أنها جزء هام من المشاكل البنيوية التي أُهملت في ظل خطاب التطرف القومي أو الديني، وتحت غطاء من الاطمئنان المفرط عند الحاكمين.
حاليا مع سقوط نماذج الدولة ـ الأمة أو الدولة الوطنية في المشرق العربي ومغربه نتيجة سوء التطبيق أو عدم التأقلم مع الواقع، وضمن انهيار النظام الإقليمي العربي، لابد من التفكير بعمق حول الحلول في عملية إعادة البناء، لأن الهوية القومية الكبرى أو المواطنة على صعيد الكيانات والبلدان، لا يمكن أن يكونا قوة جذب وتوحيد وتأطير بغياب الاعتراف بالمساواة في الحقوق والواجبات للأفراد المواطنين المتحررين من عبء القبيلة والعشيرة والمجموعة والعصبية والطائفية والإثنية…. بانتظار ذلك وهو مسار على مدى طويل، يجدر نقاش حلول تسمح للأقليات الإثنية والدينية والقومية والثقافية أن تشعر بالانسجام وباحترام كينونتها ضمن بوتقة هوية كبرى جامعة بعيدة عن منطق هيمنة الأكثرية أو عن مسح كل خصوصية باسم الدين الواحد والانتماء القومي الواحد.
إن لغة التخوين التي يتبعها البعض في صفوف الطبقات الحاكمة لتفادي الإعتراف بالمشاكل القائمة، هي في نفس مستوى خطر رهاب بعض الأقليات على "لعبة الأمم" لكي ينالوا حقوقهم استنادا إلى الأجنبي في مواجهة القوة المحلية المسيطرة.
المسألة إذن ليست أقليات مغبونة تاريخيا فحسب، بل هي أيضا النزعة إلى لعب أدوار حصان طروادة عند بعض متطرفي الأقليات، فكيف يتم وقف هذا المسلسل الذي له جذور تاريخية بعيدة، لكنه أخذ كل بعده منذ اعتماد "التنظيمات" أيام العثمانيين، وتواصل بعد الحرب العالمية الأولى وما جرى من سان ريمو إلى فلسطين عبر تدمير أهل الأكراد من ناحية، وعبر سلب العرب لحقوقهم فلسطينيا بعد سقوط وهم المملكة العربية اللورانسية. أما في شمال إفريقيا ومغرب بلاد العرب، فقد بنيت دول الاستقلال الحديثة من ليبيا إلى موريتانيا، والمغرب ، والجزائر، دون السعي لمقاربة شمولية لاشكاليات الهوية والانتماء ما بين الإسلام والعروبة والإفريقية والأمازيغية.
ليست مشاكل الأقليات محصورة في نطاق منظومة العالم العربي، بل أنها عادت الى السطح بقوة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبروز العولمة الشمولية الرأسمالية التي أخذت تهدد أدوار الدولة الراعية أو الدولة ـ البوتقة. وإذا ثبت صمود الأبعاد القومية والدينية عند الشعوب بمعزل عن تطور الطبقات أو الأنظمة السياسية، فإن العولمة بوجهها النازع إلى التكور الإنساني حسب تعبير كمال جنبلاط، وفي موازاة ضعف الدول وتحلل بعضها (البلقان، إفريقيا، المناطق المسماة رمادية في عالم اليوم)، نستنتج صعود الهويات الخاصة والجزئية إن كانت قومية أو دينية أو إثنية أو ثقافية.
إنها غرابة مرحلتنا الحاضرة. إن إعادة تشكيل النظام السياسي الدولي يشهد مساران متوازيان وهما الدفع بمزيد من الشمولية (العولمة) تحت ضغط انتصار نموذج اقتصاد السوق ولو مؤقتا (لصالح متعددة الجنسيات أساسا) وثورة الاتصالات والمعلوماتية من جهة، وتفجر الفقاعة من تحت من جهة أخرى، أي مزيد من الحركات المطلبية والمسلحة والثورية والانفصالية في سياق للحفاظ على الهويات الجزئية حتى لا تذوب في السياق الأوسع.
إذا نظرنا من حولنا لمشكلة أيرلندا العتيقة أو لمشاكل الباسك والغجر والكورسيكيون وغيرهم، لأدركنا أن أوروبا لم تحل نهائيا هذه المشكلات بعد. لكن توجه الاتحاد الأوروبي نحو اعتماد مزيد من الجهوية (Régionalisme) على حساب الدول الوطنية، يمكن أن يرضي هذه النزعات لكي تقبل تأطيرها ضمن الوعاء الأوسع.
في العالم العربي، زاد الأمر إلتباسا مع انتكاسة الفكر القومي العربي والتيارات الحاكمة باسمه. وأخذ المستشرقون الجدد يعاونهم أنصار "اليقظة الاسلامية" باستخدام تعبير العالم العربي ـ الاسلامي، في مسعى لإذابة العروبة ضمن الإطار الديني.
إنه نقاش قديم حول الهوية، لكنه نقاش مرير بدأ عند بروز الهويات الطائفية المقيتة في لبنان، والآن في مارس 2004 أمام الحواجز الأمنية في شمال شرق سوريا يسأل الآتي : هل أنت كردي، عربي، مسيحي؟ أين الهوية السورية الوطنية والمواطنية، أين الهوية القومية؟
إنه سؤال يشبه سؤال من نحن الذي برع القوميون السوريون الاجتماعيون بطرحه لاجتذاب أبناء سوريا الطبيعية والتاريخية. إنه سؤال له صلة بتشاد القوميات (حسب تعبير ملحم قربان) أي بصراع القوميات اللبنانية والسورية والعربية في بلد صغير ومتنوع مثل لبنان. لكن وراء هذا الاحتدام، أمام مطلب الفيدرالية من هنا، أو الانفصال من هناك، أو الاعتراف الثقافي أو المساواة السياسية تكمن مشكلة لا صلة لها فقط بإشكالية الهوية أو الأقليات. إنها مشكلة عامة في صلب البناء الوطني. فطالما بقي الفرد مغيبا لصالح المجموعة، وضمن ضغط الانتماء العشائري والقبلي والطائفي، لطالما بقي المجتمع المدني مصابا بعرى الانفصام، ولطالما استمرت العداوة بين المجتمع والدولة.
إن الثورة من أجل إحقاق إنسانية الإنسان فيه أو بلورة الفرد المواطن هي الثورة الثقافية المثلى، ثورة من دون عنف ومن دون مزيد من الفتن، إنها ثورة داخلية وذاتية قائمة على التربية والتنشئة المدنية والمتولدة عن قناعات في المقام الأول. إنه مسار إعادة بناء من نقطة الصفر أي سعي لعصر تنوير عربي، لم تتمكن محاولات النهضة السابقة من الوصول إليه. لتعتمد محاولة التنوير الجديدة على كل ما هو قيم وإيجابي في التراث من بلدان كانت مهد الحضارات ومهبط الديانات التوحيدية وحاملة الفكر الإغريقي، وناقلة وسيطة ساهمت في قيام الحضارة الأوروبية أساس الحضارة الحديثة.
إن التنوير العربي أو التجديد العربي أو النهضة لمواجهة الانحطاط، عبارات جميلة وشيقة .. لكنها تتطلب نوعا من التفاعل يبدو غائبا بين النخب والجماهير، وتتطلب الاعتراف بالآخر ضمن حوار الأحزاب والقوى وكل أطراف المجتمعات المدنية. إذا وصلنا لهذا المستوى من الاعتراف بالآخر، إن كان ديمقراطيا أو ليبراليا، ماوتسيا أو قوميا، إسلاميا أو تقدميا، فرعونيا أو أمازيغيا، يمكن عند ذلك الانطلاق بشكل أفضل لتحديد حيثيات المشروع التنويري العربي أي مشروع المواطنية العربية داخل كل كيان موجود وداخل الإطار القومي الرحب. إن محور التنوير هو قيام الإنسان الفرد ـ المواطن دون إهمال الجماعة وصيرورة التضامن، لكن ذلك يبعد شبح الانتماءات المهددة والخصوصيات القائلة وتصبح الخصوصيات مصدر غنى ضمن تنوع مثمر.
بالطبع تتطلب هذه العجالة مزيدا من التعميق، لكن هدفها الأول هو القول بأن المطلوب هو تعملق العروبة لتخطي الإطار القومي والديني الضيق، لكي تصبح عروبة جامعة حضارية غير عنصرية قادرة كما في أيام عزها على تأطير الجميع دون سحق خصوصياتهم. إنه رهان ممكن لأن نزعة الإنسان الطبيعية تقوده نحو التجمع البشري، ولأن الحلول ضمن إطار الكيانات والدول الوطنية، لم تعد وحدها ممكنة وفعالة وثبت عمقها غالبا.
هكذا في موازاة حل مشاكل الأقليات عبر المواطنة، وبشكل تدريجي ضمن حوار خلاق، يمكن أن يكون الحل الأمثل في بناء اتحاد عربي فيدرالي ديمقراطي لا مركزي، يحفظ حقوق الجميع ويكون الوسيلة الفضلى لمختبر العروبة الحضارية.
إن مفاهيم الديمقراطية العددية القائمة على هيمنة الأكثرية، أو الديمقراطية التوافقية القائمة على المساومات الدائمة والعقيمة أحيانا، لا يمكن أن تقدم حلولا لمعضلتنا.
إن الديمقراطية مرتبطة بالحرية، ولا يمكن أن تقوم إلا استنادا على المساواة بين الحقوق والواجبات في مجتمعات مركبة أو متجانسة.
لذا فإن الديمقراطية بحد ذاتها هي مترابطة مع المواطنية، والمطلوب إيجاد الأطر لنصل إلى هذا الحد. إنه مسار طويل لأنه مسار إعادة تأسيس بعد نهاية مرحلة وبدء أخرى.
لا يحق لنا دوما اتهام الأجنبي أو السعي للإصلاح تحت الضغوط، بل أن الاعتراف بالواقع هو أفضل وسيلة لتحصين البيت العربي المترامي الأطراف، وتغليب الهوية الكبرى على الهويات الجزئية ضمن منهج جديد بعيد عن القسرية، وضمن قراءة أفضل للمتغيرات الإقليمية والدولية.
ــــــــــــــــــــــــ
خبير في العلاقات الدولية، لبناني مقيم في باريس