رحيل المؤرخ الفرنسي دومينيك شفالييه
الجيران - باريس - وكالات - فجعت الساحة الأكاديمية الفرنسية يوم 13 أيارالماضي برحيل واحد من أهم مؤرخيها المعروفين دومينيك شفالييه استاذ التاريخ المعاصر في جامعة باريس السوربون. ولا شك ان رحيله سيخلق فراغاً ليس فقط من الناحية المعرفية بل وأيضاً من ناحية المواقف المؤيدة للعرب.
شفالييه رجل عرف بدفاعه عن مواقف العرب وقضاياهم في فلسطين والعراق ، سواء عبر كتاباته المتعددة عنهم أم من خلال الحلقات الدراسية المكرسة لقضاياهم ومشاكلهم التي كان ينظمها بصفته استاذا للتاريخ في السوربون أو مديراً لمركز تاريخ الإسلام المعاصر فيها.
لقد عرف شفالييه العالم العربي أثناء رحلاته ومهماته العلمية وغيرها خلال ما يربو على نصف قرن ، فكان يصور بعقله وقلبه كل صغيرة وكبيرة ، ويدون كل ما يراه ويسمعه ويلاحظه من سلوكيات نظرائه ومستقبليه ، معلقاً عليها ، معتمداً على مخزونه المعرفي عن التاريخ الانساني بعموميته والشرق العربي يخصوصيته. ان سيرة دومينيك شفالييه تظهر سيرة مؤرخ لا نظير له ، عرف العالم العربي ، وأحبه ، وانتقده، ولد دومينيك أوليفيه شفالييه Dominique Chevallier في عام 1928 في باريس ، لأبوين طبيبين. وقد تلقى شفالييه في طفولته ومراهقته تربية متسامحة ، وقرأ كثيراً ، وبدأ ممارسة الكتابة وبعض الفنون اليدوية. في العام 1955 التقى بجاك بيرك في القاهرة الذي استدعاه في العام التالي للعمل معه في تلفيا في جبل لبنان. ومن أعالي المتن تابع شفالييه أزمة وحرب السويس عام :1956 إذ كانت بيروت ، آنذاك ، تبدو كمرآة لكل التوترات الطائفية والمجتمعية والسياسية في الشرق الأوسط. وفي العام 1957 تم تعيينه باحثاً في المعهد الفرنسي للآثار في بيروت. ومن 1957 إلى 1964 درس التاريخ الحديث المعاصر لطلبة الليسانس في مدرسة الآداب العليا ببيروت ، إذ كشفت له السجلات داخل المجتمع اللبناني ، الذي استضاف كل اللاجئين السياسيين في المنطقة ، قضايا الشرق العربي في مجمله والخصائص الأصيلة لبناه العائلية والقبلية والنفوذ المتعالي لوحدانيته الدينية.
وإثر تعيينه باحثاً عام 1958 في المعهد الفرنسي في دمشق ، كان شاهداً مباشراً على الآمال والحماسة التي استثارتها القومية العربية مجسدة بجمال عبد الناصر فقارن النداءات الوحدوية العربية بتلك الداعية إلى أمة الإسلام النموذجية ، وتلك الدعوات التي أثبتت وجود زعامات محلية ومجتمعية.
وخلال إقامته في القاهرة في ربيع 1960 أدخله طه حسين إلى أعماق النزعة الإنسانية الإسلامية محذراً إياه ، في الوقت نفسه ، من تلاعب الأنظمة السلطوية بالنصوص والكلمات. وباقتراح من أساتذة كلية الآداب في باريس تم تعيين شفالييه كأستاذ محاضر في كلية الآداب بجامعة تونس عام 1964 حيث أقام مع عائلته في قرطاج. ومن بين أصدقائه الكثر هناك عبد الوهاب بوحديبة.
وفي أيار 1971 ناقش أطروحة دكتوراة الدولة حول "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا" التي نال عنها تكريم أكاديمية العلوم السياسية والأخلاقية الفرنسية. وبدأ شفالييه منذ تشرين الثاني 1971 حلقته البحثية التي استمر في الإشراف عليها حتى العام 1997 في جامعة باريس - السوربون. وفي العام 1976 اختير أستاذاً في نفس الجامعة حيث أنشأ وتولى إدارة مركز تاريخ الإسلام المعاصر.
وقد شهدت السنوات اللاحقة لحظات نجاح عظيمة بصحبة الطلبة والباحثين الذين عملوا تحت إشرافه من الرجال والنساء والموهوبين الذين شاركوا في حلقاته البحثية. ففي الإشكاليات التي كان يطرحها وتحليلاته المجددة وشهاداته على التاريخ المعاصر للعالم العربي الإسلامي تتزاحم أسماء من بينها: هنري لورانس ، مسعود ضاهر ، أحمد بيضون ، سمير قصير ، ايريك رولو ، ادوارد سعيد ، عبدالعزيز بوتفليقة ... وغيرهم.
ان تلك الدراسات ، وتلك الأفكار ، والمنهجية التي كان يعلمها شفالييه تقوم على "أن يكون المرء نفسه عبر الآخرين". وقد نشرت دراساته في أعمال جماعية أشرف عليها مثل : "العرب من خلال أرشيفهم" عام 1976 ، "واحياء العالم العربي 1952 - "1982 عام 1987 ، و"العرب ، الإسلام ، أوروبا" 1991 ، "و"العرب من الرسالة إلى التاريخ" عام 1995 .. وغيرها.
من بغداد إلى لومي ، ومن صنعاء إلى الدوحة ، من الرباط إلى القاهرة ، ومن تونس إلى مسقط ، من هارفارد إلى برنستون ، من كاراكاس إلى سانت بطرسبورغ ، ومن أكسفورد إلى روما ، ومن عمّان إلى اسطنبول ، من أبو ظبي إلى كراتشي ، ومن الرياض إلى بيروت... كان شفالييه يدعى ليحاضر ويشرف ويحاور. وأنا شخصياً ، قمت ، بصفتي رئيساً ومنسقاً ، بدعوته للأردن مرتين للمشاركة في مؤتمر" العلاقات العربية الأوروبية بعد 11 سبتمبر" عام 2005 ، ومؤتمر" رسالة في عيون الآخرين" عام 2006 اللذين نظمتهما الجامعة الهاشمية. كان شفالييه يحب العودة إلى لبنان وسوريا ، وخلال المحن التي عاشها لبنان بين 1975 1989و كان يزور لبنان كل سنة حيث كان يحظى بأصدقاء يتجاوزون كل الانقسامات. وكان يواصل أحاديثه المطولة مع رؤساء الجمهورية المتعاقبين ، وكذلك مع رؤساء الوزارات. أما في الأردن فكانت له علاقة قوية مع سمو الامير الحسن بن طلال إذ كان يكن الكثير من الود للأمير. وقد كلفه سمو الأمير برئاسة لجنة تاريخية عالمية لكتابة التاريخ العربي عام 2007 تضم بعض المؤرخين العرب المعروفين. وكانت وجهة نظر شفالييه في هذا الموضوع ، كما قال لي ، ان التاريخ العربي يجب كتابته من قبل المثقفين العرب الذي يعيشون فيه وليس من قبل اولئك الذين يرونه من بعيد، شغل شفالييه مقعداً في المجلس القومي للبحث العلمي في فرنسا ، وفي مجالس مختلفة في جامعة السوربون حيث تولى مسؤولية العلاقات مع البلدان العربية والإسلامية. كما قدم مشورته إلى جورج غورس عند إنشاء معهد العالم العربي الذي ترأس فيه اللجنة الثقافية ، ثم تم تعيينه من قبل وزارة الخارجية كعضو في المجلس الأعلى للمعهد.
في عام 1997 أصبح "أستاذ شرف" في جامعة السوربون. لقد افتتح القرن 21 عصراً جديداً من تاريخ الإنسانية ، ودخله دومينيك شفالييه بكتابه: "حبر الشرق ، بين الحروب وصراع السلطة" الصادر عام2003 . وقد قمت بترجمة هذا الكتاب الذي صدر في بيروت هذا العام. وكنت تواعدت مع دومينيك شفالييه قبل وفاته بتنظيم حفل توقيع لهذا الكتاب في شهر تموز المقبل بيد أن القدر كان أسرع منا. لقد رحل صديقي (رغم ان الفارق العمري بيينا يقارب الاربعين عاماً)... صديق العرب.