قبة الصخرة المشرفة (من مواد الموسوعة الفلسطينية – القسم الأول – المجلد الثالث ) :
يقوم بناء قبة الصخرة المشرفة في وسط ساحة الحرم الشريف القدسي , في القسم الجنوبي الشرقي من مدينة القدس , وهي ساحة فسيحة مستطيلة الشكل تمتد من الشمال إلى الجنوب مقدار 480 م, ومن الشرق إلى الغرب مقدار 300 م تقريبا. وتكّون هذه الساحة على وجه التقريب خُمس مساحة مدينة القدس القديمة التي يسكنها في اليوم الحاضر(1981) ما يقرب من 70 ألف نفس . وهذه الساحة هي التي جاءت الإشارة إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى:"سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله". وقد قدّس المسلمون هذه البقعة منذ بزوغ الإسلام, بصفتها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين اللذين خصّهما الله بالقداسة والتعظيم . وفي هذه الساحة الشريفة التي بقيت مدار اهتمام المسلمين وعنايتهم مدة أربعة عشر قرنا من المباني الفخمة والزخارف الخشبية والجصية والفسيفسائية وغيرها ما يكوّن تراثاً فريداً في نوعه وأهميته , يشهد على الذروة العظمى التي بلغتها الحضارة الإسلامية في مختلف الأزمنة والعصور .
إن بناء قبة الصخرة هو أهم هذه المباني , شرع في إنشائه عبد الملك بن مروان, الخليفة الأموي الخامس , سنة 68هـ - 688م , حول الصخرة المشرفة الواقعة على صحن مرتفع في وسط ساحة الحرم الشريف , وانتهى البناء سنة 72هـ -691م . وقد أقام عبد الملك فوقها بناء مستديراً مكوناً من قبة خشبية مرتكزة على رقبة مستديرة الشكل , محاطة بست عشرة نافذة . وهذه الرقبة مستندة على رواق مستدير , محمولة على أربعة أركان من الرخام الأبيض المشجّر, واثنى عشر عموداً موزعة, بحيث يعقب كل ركن ثلاثة عمد. ويتكون باقي البناء الذي في ظاهر الرواق الداخلي المستدير من مطافيّن يحوطان به. وهما منفصلان أحدهما عن الآخر برواق وسطي مثمّن الشكل , محمول على ثمانية أركان , مؤزرة بالرخام المشجر والملوّن البديع , وستة عشر عموداً موزعة , بحيث يعقب كل ركن عمودان . ويربط الأركان والعمد التي بينها بساطل , أي روابط خشبية ملبسة بالنحاس الأصفر المنقوش المذهب . ويعلو البساطل قناطر كلها مزينة بالفصّ المذهب البديع المزين بأنواع التشجير والتنميق . وقد نصب على هذه القناطر سقف مائل من الخشب , دهن باطنه بأشكال هندسية ظريفة , وصفّح بالظاهر بألواح الرصاص . ويشغل باقي المساحة مطاف خارجي يقع بين الرواق الوسطي وجدران البناء الخارجية التي تشكّل شكلاً مثمناً , وفي كل ضلع من هذا المثمن المقابل للجهات الأربع باب . وعلى بضعة أمتار خارج الباب الشرقي تقوم قبة السلسلة , وهي بناء جميل كثير الشبه بقبة الصخرة مما جعل بعض الدارسين يعتقد أنه بني نموذجاً لها .
رقبة القبة مبنية فوق الرواق الداخلي المستدير , وقطرها 20.5 م وعلّوها من الأرض ابتداء نهوض القبة عنها مثل هذه المسافة . وقد بنيت دعائم لتعضيد الرقبة, وهي مرتفعة على الأركان الأربعة السفلية , وتنفذ في السقف, وهي بارزة وظاهرة بجلاء من الخارج .
وتحمل الرقبة قبة خشبية وصفها المقدسي سنة 374هـ - 985م بأنها كانت مغطاة بصحائف ذهبية . والقبة اليوم مؤلفة من قبتين خشبيتين الواحدة داخل الأخرى , وقد نصبتا على إطار خشبي متوج لرقبة القبة غرست فيه قضبان من الخشب المكّون للقبتين . وقد زين داخل القبّة الداخلية بالقصارة المذهبة البارزة على الطريقة العربية , وظهر في القسم السفلي من القبّة كتابة تفيد تجديد زخرفة القبة من الداخل ثلاث مرات أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 585هـ -1189م , وفي أيام الناصر محمد سنة 718 هـ - 1319م , وفي أيام السلطان العثماني محمود سنة 1233هـ - 1817م, وهناك نص آخر يشير إلى بعض تعميرات أخرى عملت أيام السلطان عبد العزيز سنة 1291هـ - 1874م .
أما زخرفة البناء الفسيفسائية فتغطي أكثر من 1,200 م2 من مساحة الجدران , وتنقسم بحسب تاريخ صنعها إلى ثلاثة أقسام واضحة في أسلوبها, منسجمة مع بعضها, ومؤلفة وحدة بديعة غاية في التناسق:
1) القسم الذي يزين توشيحات وبواطن قناطر المثمن الوسطى من الداخل والخارج. وقد رصف فيه تاريخ البناء مع آيات قرآنية بالحروف الكوفية القديمة , تمتد على طول 240 م على رأس القناطر المحاذية للمطاف الداخلي . وجميع الفسيفساء التي تحيط بهذه الكتابة شبيهة جدا في حجمها وشكلها وأسلوبها بتلك التي وضعت عليها الكتابة المؤرخة سنة 72هـ -691م . ولا يوجدا مايدل على انفصال الواحدة عن الأخرى , مما يدل على أنها كلها ترجع في صنعها لزمن واحد, وأنها كلها معاصرة لتاريخ البناء نفسه .
2) قسم الفسيفساء التي تزين الوجه الخارجي فقط لقناطر الرواق الداخلي المستدير الحامل للقبة , وليس عليها تاريخ .
3) الفسيفساء التي تزين المنطقة . عليها تاريخ يشير إلى تجديد عمارتها سنة 418هـ - 1027م . وهناك الفسيفساء التي كانت تزين ظاهر بناء القبة , وسقطت عنها في القرن السادس عشر , إذ أبدل منها القاشاني الموجود عليها في اليوم الحاضر , والذي يرجع عهده إلى السلطان سليمان القانوني (960 هـ - 1552 م ).
إن البناء في هندسته وشكله يشهد بما للصنّاع السوريين من الخبرة والمقدرة في فن العمارة , فالأركان والأعمدة قد بنيت بشكل محروف , حتى إن الداخل من أي جهة إلى المسجد تظهر أمامه جميع أطراف المكان دون أن يقاطع بصره شيء من الأبنية فيرى القسم القريب والبعيد , وهذا أكسب البناء روعة وجمالاً وجلالاً , وأظهره باتساع أكثر مما هو عليه في الحقيقة . ولا شك ان راصفي الفسيفساء لم يكونوا أقل مهارة وخبرة من البنّائين . وهناك مهارة فائقة ظاهرة في الزخرفة . إذ أن كل عنصر منها موضوع في المحلّ المناسب له , وليس هناك لحن في الإيقاع , ولا خطأ في الذوق . ويعتري الناظر إلى الفسيفساء لأول وهلة ذهول , ويؤخذ بسحر ألوانها وخطوطها التي يجللها نور ضئيل يزيدها رونقاً وروعة وسحراً. وبعد التأمل الطويل وتقليب النظر تبدأ العين تستيقظ وتنتبه منجذبة بلمعان الفسيفساء الذهبية البراقة , فتنكشف أمامها الأشكال والنقوش المختلفة . فهنا أشكال لأشجار النخيل , متفرعة منها أغصان مثقلة بقطوف البلح المتدلية , وتبدور أكاليل الأزهار ملتفة عليها الأوراق . وفي جهة أخرى تظهر دالية العنب ممتدة على بعض أعالي الأركان, أو منتشرة على توشيحات القناطر . وفي ناحية ثالثة يشاهد نيات الأقنثوس متفرعة منه أوراقه المجزعة وأثمار متهدّلة على الأغصان . وبين هذه الزخرفة المتكونة من أجزاء قد ألفتها الأبصار في الأشكال التقليدية , تنبثق مشاهد تبدو بأشكال أخرى , هي وليدة المخيلة الشرقية الأنيقة , والتي تختلف عن الأولى أسلوباً وشكلاً. فهناك قلائد الأزهار ملبّسة باللآلئ ملتفة بسلاسل ذهبية وصدفية منتشرة على الجدران . وفي جهة أخرى أغصان النبات وأوراقه ملتفاً عليها قلائد مرصعة بالجواهر , مما أكسب الزخرفة لون الترف والخشونة وهذا أكسبها خصائص فاتنة , وميّزها من أي أسلوب زخرفي آخر . ويخيل للرائي بأنه في إحدى الجنائن الخيالية المذكورة في قصص ألف ليلة وليلة.
وقد جاء الاستغناء عن الصور الممثلة للإنسان والحيوان وفقاً لأحكام الديانة الإسلامية , واستعيض عنها بالأشكال الطبيعية والرسوم المركبة والتقليدية , مما أعطى المكان رونقاً يمتاز من غيره بما يبعث في النفس من الشعور بالهدوء والطمأنينة والتأمل العميق . والزخرفة بمجموعها مكونة من أشكال متباينة مرنة التكييف , ولا شك أن الفنان الصانع لها كان أميناً في صنعته على المبادئ الأساسية لأساليب الزخرفة التي كثيراً ماأهملت , وهي أن تأتي الزينة والزخرفة متناسقتين مع المكان الذي تجمّلانه . وهندسة البناء الداخلية هي التي تطلبت أن تكون الزخرفة على ما جاءت عليه .
وصفوة القول إن قبة الصخرة في هندستها وشكلها وزخرفتها كانت ولا تزال من أجمل وأروع المباني التي أتحف بها العالم . وقلّما يوجد في مباني العالم ما يفوقها, أو يضارعها بهاء وروعة وجمالاً. فزيادة على زخرفة سقوفها المذهبة وجدرانها الرخامية ونوافذها الزجاجية تفتن العين بالفسيفساء , وجمال تأليفها , وألوانها التي جاءت كلها على أحسن تناسق وانسجام , وبالأشكال المختلفة التي استعملت , والأساليب , والألوان , ودقة الصنع التي بلغت الحد الأعلى من الكمال . كل هذا جعل من قبة الصخرة أثراً فريداً في تاريخ الفن .
وجدير بالذكر , أن جميع الدراسات والاختبارات الأثرية الكثيرة , التي أجراها علماء مختصون على البناء خلال عمليات الصيانة والترميم , على مدى الأزمان, أثبتت بما لا يدع مجالاً لأي شك , أن قبة الصخرة , بكامل أساساتها وجدرانها الخارجية , وهي من إنشاء عبد الملك بن مروان , وأنها بناء متجانس الأجزاء , لا يضم بقايا أي بناء قديم كما توهمّ البعض
.