ذات أصيل، عندما توهج فتيل الذاكرة قادتني قدماي الى ذلك المرفأ ، هناك عند بقايا السفينة الحزينة التى تبكي فراق الأحبة ، تعودت ان اناجي البحر ، أوشوش صدفاته ، وتعود البحر على ان يدغدغ قدمي بشقاوة أمواجه المشاكسة ، احتضنت بعض من السفينة المهجورة واحسست بأنها تئن ألماً، او ربما كانت تشاطرني حزني على فراقه.
اذكر انني سرت طويلاً ذلك المساء الى ان تعثرت قدماي بشئ صلب، فصحوت ونظرت عند قدمي، فوجدت زجاجة مغلقة وبها قصاصة ورقية، مددت يدي وبفضول فتحتها ، وبلهفة مسكت القصاصة ، كانت رسالة، واحسست بأنني ارتكب خطيئة وأنا اقرأها، ربماهي لشخص اخر، كنت أشعر بأن الشاطئ ملكي وحدي وكل مافيه لي انا وحدي.
ولكن...ما أن جالت عيني في السطور الأولى حتى عرفت انني المقصودة ، هذا اسلوبه هو، نعم هو ولا أحد غيره.
تقول الرسالة:
" انا لم انس.. او تظنين اني نسيت ؟
اتذكرين حينما كنا نحلق في أعالي ذاتنا حينما كنا كنسمات الريح الهاربة من قدرها في بلاد شتاء اللا شتاء في زمن اللا زمن. اتذكرين حينما كنا أرواحاً وحسب ، حينما كان جسدينا منهجأً ومدرسة مفتوحة نتعلم فيهما من ذاتنا؟ اتذكرين ؟؟؟
كان السفين المهجور ياسيدتي احدى مدونات الملحمة ،
هل كان الحبر؟ لا
أكان القلم ام القرطاس؟ لا اظن ذلك ايضا.
لم يكن هذااو ذاك ،
ولم يكن حتى المكان بل كان شيئا اخر
أتذكرين تلك المسافة الصغيرة في عمر الزمن ، تلك التي قطعناها سويا كأنها زمن بحاله . انها حقا كانت مسافة اكبر من المكان واكبر من الزمان واكبر من تحملي كإنسان ، لكن دون ان اشعرك بذلك ، رحلت بصمت ،فدمعة منك كانت كفيلة بأن تكسر ما تبقى مني ،ما كان كان شيئاً اخر والا لماذا الان لا أتذكر سواها رغم انها كانت ليست اكثر من نسمة عبرت واسرعت وغابت وبقي منها الذكرى.
ترى هل سنلتقي ثانية عند اطلال تلك السفينة المتهالكة المصرة ان تحتفي بامثالنا قبل ان تمضي وتدوسها الاقدام ، هي لا يهمها العدد ولا الضوضاء والجلبة التي يثيرها عدد المتواجدين ،هي ترضى بزوارها الذين لا يتحدثون الا بلغةالصمت ، اولئك الذين يخافون الحديث حتى لا تخونهم الكلمات
هل سنبحث المكان والزمان ثانية ونقلب الصفحات ، ونلتقي عند سفينة اخرى اتعبها السفر؟.
السفينة القديمة دائما تبكي على من كانوا يوما ياتون اليها ويواسونها فالغياب الطويل يبكيها. لكن همسها لا يجف ما دامت ترسم وجودها في الذاكرة، لو كنت استطيع ان اسأل تلك السفينة المهجورة ، كنت سالتها ، يا ترى لو اتى احدنا الى المكان ، هل سيكون الاخر في الانتظار؟"
انتهت الرسالة
ووجدتني اعتصرها بيدي واتمتم بهمس:
"نعم ما كان كان شيئاً أخر ، انت لن تنسى ، وانا لن انسى. ما كان لم يكن حدثاًعادياً يتلاشى بمرورالزمن وينتهي،ماكان بيننا حالة متميزة وفريدة ، ليس لأننا مختلفين عن باقي البشر ، ولكن لأن الظروف التى جمعتنا كانت عجيبة، والوقت كان غريب. سامحني لقد جئتك في الزمن الخطأ، والمكان الخطأ.
لم يعجبني بك ما يعجب باقي النساء من مظاهر ، اعجبني فيك المضمون ، ابهرتني ثروتك الفكرية ورجاحة عقلك، غزوتني بطريقة غير عادية ، بلا اسلحة ولا مناورات كما يفعل باقي الرجال ، غزوتني بهدوء شديد، كنت انساب اليك بكامل ارادتي وبلا خوف او وجل، علمتني المعاني ، وزرعت في عقلي الكلمات العذارء البريئة لتنمو جملاً تغذي كياني ، كنت معك أشعر بأنني كنت انمو بسرعة حتى اصلك، فأنت النخلة التى تطلعت لها بشغف وضللتني بشموخ.كان يكفيني منك كلمة أو همسة لأصافح الغيمات وأراقص النجوم.
نعم ما كان بيننا كان شيئاً اخر كلانا لم يمر به من قبل ولهذا كان مثل الزلزال ، قلب الموازين وأربكنا، تاركاً ايانا في حالة لا أدري ماذا اصنفها ولكنها حالة من فوضى الحواس. ابكيتني كثيراً ، واسعدتني كثيراً بقدر ما ابكيتني، وكأنك كنت تكتب الآمنا بالحبر السري وتحفر فرحنا في قلب القمر .
نعم مازلت اذكر تلك السفينة المتهالكة وأهمس لك الأن بقربها
أزور المكان دائماً في نفس الوقت ، ولكنني اشعر بالوحدة، لا يشاطر وحدتي الا هذه السفينة الحزينة ، أشعر بالإنكسار وحدي وأشعر بأن كل شئ حولي فارغاً من مضمونه ، وكأنك اخذت معك كل المعاني الجميلة.
كل مرة كنت اقضي ساعات وانا شاخصة في الموج كالبلهاء امني النفس بمعجزة ،كأن تأتيني ممتطياً صهوةموجة لتهديني مفاجأة عمري ، وأحياناً كنت اقف على بوابة احلامي وأنا اهتف " افتح يا سمسم" علك تخرج لي من كهف البعد، ، جمعت لك من القواقع اجملها لأهديك اياها، وأودعت في كل واحدة همسة مني اليك، يقولون ان اللقاء نصيب، ربما تجمعنا تلك السفينة مرة اخرى، وربما تجمعنا اماكن اخرى، ولكن كن على ثقة بأنك اضفت لي الكثير، وعلمتني الكثير، فأنت الكبير وستبقى دائماً وأبداً مدرستي التى لن أتخرج منها".
سلوى حماد