ثورة البراق
بقلم الكاتب والباحث/احمد محمود القاسم
كان الجدار الغربي للحرم القدسي الشريف، موضع من مواضع الجدل الديني الكبير، بين المسلمين واليهود، فالمسلمين، يعتقدون أن الموضع القائم هناك هو "حائط البراق" وهو الذي ربط عنده جبريل-عليه السلام-البراق الذي ركبه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليلة الإسراء والمعراج، وأن دخول النبي-صلى الله عليه وسلم-إلى المسجد الأقصى، كان من هذه الناحية.
في المقابل، يعتقد اليهود، أن هذا الحائط، هو البقية الأخيرة المتبقية من معبد (هيرودس) الروماني، الذي بُني سنة إحدى عشرة قبل الميلاد على بقايا هيكل سليمان، ويسمون الحائط باسم "حائط المبكى" -أو جدار المناحة-حيث يبكون وينوحون على تدمير المعبد المعروف لديهم بهيكل (سليمان)، غير أن هذا الاسم لم يظهر إلا في زمن متأخر، حيث تناوله الرحالة الأوروبيون في بعض أحاديثهم عند زيارتهم لمدينة بيت المقدس وأرض المشرق.
واقع الأمر، بالنسبة ل(جدار البراق) يرتبط عند المسلمين بمعجزة الإسراء و المعراج، التي كانت للنبي محمد (ص)، وهو الحائط الغربي للحرم الشريف، وتوجد في داخله غرفة صغيرة، يعتقد المسلمون بأن الرسول (ص) ربط فيه حيوان (البراق) ليلة الإسراء و المعراج، ويبلغ طول حائط البراق (48) متراً و ارتفاعه (17) متراً ويشكل جزءاً من أساسات المسجد الأقصى، وأقيم عنده مسجد صغير لصلاة النافلة.
أما اليهود فيدعون أن حائط البراق هو جزء من جدران الهيكل الثاني او ما يعرف (بهيكل سليمان)، الذي يقال، بأن من بناه هو (هيرودوت الكبير) عام 18 ق. م، ودمًره القائد الروماني (تيطس) عام 70م، ولا يوجد أي دليل مادي على صحة هذا الادعاء، على الرغم من الحفريات الأثرية التي قام اليهود بها، حيث تضاربت الآراء في تحديد موقع الهيكل، ولكنهم حاولوا ربط رغبتهم بالصلاة أمامه، بادًعاء الملكية عليه ".
أثار الحائط نزاعا شديدًا بين المسلمين واليهود بعد أن قَوِيَ التواجد اليهودي في القدس وفلسطين، فشكل المحتل البريطاني لجنة للتحكيم بين الفريقين، فضًّا للنزاع المحتدم، ولم تَجِدِ اللجنة ما تحكم به لليهود، فحكمت للمسلمين بأحقية تملك جميع المنطقة المحيطة بالجدار الغربي من الحرم، وباعتباره وقفا إسلاميا خالصا.
كان هذا الحكم من لجنة التحكيم، حلقة في النزاع الذي احتدم بقوة بين العرب واليهود على حائط البراق التاريخي، فقد استُثير المسلمون بشدة حين قام اليهود في عيد الغفران اليهودي عام 1928م، بتجميع الآلاف من نسائهم ورجالهم عند الحائط التاريخي، وأعدوا المكان لأداء طقوسهم، ونفخوا في البوق، ورفعوا صوَرًا عليها هيكلهم البديل عن المسجد الأقصى، فعمت عرب القدس موجة من الغضب العارم، سُرعان ما تسربت إلى مدن فلسطينية أخرى، حتى عمت فلسطين كلها، وتدخل البريطانيون للتخفيف من حدة الأمر، فحكمت اللجنة البريطانية بتملك المسلمين للجدار الغربي وما جاوره.
لكن هذا الحكم، لم يسكّن الأوضاع المتأزمة، وظل اليهود يجترئون على المسلمين، ويستفزون مشاعرهم، بل استخدم الصهاينة قضية الحائط لإثارة حماس أبناء دينهم، وجمْعِ الأموال والتبرعات لمساندة حلم الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
في تطور جديد للموقف، قامت تظاهرة يهودية حاشدة في شوارع القدس، يوم الخامس عشر من أغسطس-آب عام 1929م، وطاف المتظاهرون بشوارع القدس، حتى وصلوا بالقرب من حائط البراق، فرفعوا علمهم، وأنشدوا نشيدهم القومي، وتطاولوا على المسلمين بالألسن.
في اليوم التالي، وكان يوم جمعة، حلت ذكرى المولد النبوي الشريف، فاحتشد المسلمون في المسجد الأقصى من القدس والمناطق المجاورة، وساروا في تظاهرة نحو الحائطِ موضعِ النزاع، وهناك ألقى خطيب المسجد الأقصى خطبة ألهبت حماس الجماهير، فأحرقوا بعض متعلقات اليهود عند الحائط.
في يوم السابع عشر من سبتمبر، نشب شجار شديد بين شاب مسلم وآخر يهودي، فتدخلت الشرطة البريطانية لفض النزاع، وألقت القبض على المسلم بتهمة ابتداء النزاع الدموي، وقام اليهود على أثر ذلك بالاعتداء على منازل العرب. وسرعان ما تطورت الأزمة، بوفاة الشاب اليهودي، فتحولت جنازته إلى تظاهرة صهيونية سياسية ضد العرب. وبدا أن هناك تبييتا من كلا الطرفين للآخر، فاليهود يبيتون الاعتداء للسيطرة على الحائط، والمسلمون يبيتون الحذر لدفع صولة اليهود عنهم.
انتشرت الأخبار في القرى العربية حول القدس، بنيَّة الصهاينة مهاجمة حائط البراق، فأقبل المسلمون نحو القدس بأعداد كبيرة في صباح الجمعة الثالث والعشرين من سبتمبر، وقد تسلحوا بما استطاعوه من العِصِيِّ والسيوف والمسدسات، وعقب الصلاة، هاجم المسلمون أحياء اليهود في القدس، ولم يمنعهم من ذلك النيران التي فتحها البوليس عليهم، ولا الطائرات البريطانية المحلقة فوقهم.
انتشرت الأخبار في المدن الفلسطينية، فعمَّتْها الثورة، واشتعلت نيرانها في الخليل ونابلس وصفد وغيرها ضد اليهود، ومعهم الإنجليز، الذين أطلقوا النيران على المتظاهرين العرب، وتدخلوا في القتال إلى جانب اليهود، وحكموا بالإعدام على اثنين من عرب الخليل، وواحد من عرب صفد، ونُفِّذ فيهم الحكم صباح السابع عشر من حزيران من عام 1930م.
كان حصاد القتال في ثورة البراق مائة وستة عشر شهيدًا عربيًا، و مائة وثلاثة وثلاثين قتيلا صهيونيا، وجرحى من اليهود عددهم ثلاثمائة وتسعةٌ وثلاثون، ومن المسلمين مائتان واثنان وثلاثون.