صورة لم تزل حاضرة
[align=justify]
هل تستطيع ياشحرور الطيب أن تذكر لي صورة بكلّ تفاصيلها وألوانها مازالت مزروعة منذ أيام الطفولة في البال والوجدان..؟؟ لاداعي لأن تهزّ رأسك، فأنا ياصاحبي من سيفتح دفتر الذكريات ليصبّ مما كان صورة لا أستطيع أن أنساها.. وهل يستطيع الإنسان أن ينسى جزءاً من ملامح الذاكرة؟؟ نعم ياشحرور للذاكرة ملامح، ومثل هذه الملامح مكتوبة ومرسومة بحبر السنين..
كنتُ طفلاً ياشحرور.. نعم ياشحرور أنا الذي تراني الآن بطول وعرض وكرش.. كنت طفلاً.. وكان أبي رحمه الله يجلس على طرف السرير.. كنّا في الأيام الأخيرة من رمضان.. كنت وأعترف ولداً مشاغباً مشاكساً لاأهدأ ولايقرّ لي قرار.. وكنت يومها أنتظر أن تذهب الوالدة إلى سوق الحميدية في دمشق لتحضر لي ولإخوتي ثياب العيد.. قال أبي: «وماذا تريد أن تلبس ياولد»؟؟.. وأخذتُ أعدّ وكأنني سأشتري السوق بما فيه.. ضحك الوالد وقال: والله لو كنا في حيفا لأحضرت لك كل ماتطلب.. لكن الآن… وصمت.. ولاأدري لماذا رأيت شبح دموع في عينية.. هربت من الغرفة، إذ لايستطيع الطفل أن يرى أباه في حالة بكاء.. مهما كانت الأسباب لايستطيع..
في الطريق أخذت أسأل الوالدة عن حيفا، عن البيت.. عن الشوارع.. وأخذت تحكي وفي الحلق غصة.. وعندما أخذت تتحدث عن المدرسة والطالبات والصف كانت تضحك.. الذكريات الجميلة رسمت فوق شفتيها دنيا من الأحلام والابتسامات.. وكان لي أن اشتريت ماأردت.. واشترى اخوتي ماأرادوا.. وعدنا إلى البيت.. لم نكن يومها ندرك أن الوالد كان يحسب حساب العيد قبل شهور.. فراتبه الشهري من عمله كميكانيكي يقوم بإصلاح أعطال السيارات في دائرة حكومية، كان يكفي لشراء الطعام وأجرة البيت.. لا أكثر ولا أقل.. وما أصعب أن يسحب ليرة من هنا وليرة من هناك، لنشتري بعد شهور ثياب العيد..
صباح العيد، صباح أول يوم، كنا نتقافز مثل الشياطين.. نقبل يد الوالد، يد الوالدة، ونتلو بشكل آلي جملة «كل عام وأنتم بخير» ونمدّ اليد لتناول المال فرحين مهللين.. كان الفرح يسكننا.. كنا مسكونين بالفرح.. وكان الوالد يرسم ابتسامة غريبة على الشفتين، كأنه كان يخاف أن يضحك.. سألته بكل براءة الطفولة «لماذ لاتفرح مثلنا بالعيد ياأبي»؟؟ وكان علي في هذا الموقف تحديدا، مادمت قد سألت، أن أرى دموعه وأن أختنق بها قبل أن يفعل.. قال: «أي عيد ياولدي.. كنا في حيفا بأحسن حال.. بيوتنا باتساع العالم.. ضحكاتنا شلال.. لقاءاتنا في كل يوم أعياد.. الواحد منا يملك الدنيا وإن كان أفقر خلق الله.. فجأة ياولدي أشعلوا الدنيا رصاصاً ونارا ودما.. أخذوا كل شيء.. البيت.. الهواء.. الماء.. الشارع.. الخطوات على الأرصفة.. وتركونا نحمل أحزاننا ودموعنا ونرحل في أصعب حالة من حالات التشرّد واللجوء.. تغير الزمان والمكان.. تغيرت الوجوه والأحوال.. صارت الدنيا غير الدنيا.. آه ياولدي ماأصعب الغربة.. سنوات ونحن نلوك مرارة المأساة.. سنوات ونحن ننتظر العودة بكل مالدينا من شوق وحنين وحب.. ثم تقول لي عيد وفرح؟!! ياولدي كيف يفرح من أخذوا منه عمره؟؟.. كيف يفرح من صادروا من حياته الأيام والشهور.. كيف يفرح من ترك ابتسامته على جذع شجرة في حيفا.. ياولدي أرجوك اذهب وافرح كما تشاء.. مازلتَ صغيرا ياحبيبي».. وكان أبي يبكي.. كانت ثيابي الجديدة تبكي.. كانت الجدران تبكي.. كان العيد بكل مافيه من فرح يبكي.. حملت يد أبي وبللتها بقبلة ودموع.. قلت: «سنعود ياأبي صدقني سنعود».. ومات أبي.. مات.. دفن بعيدا عن حيفا.. بعيداً عن الشارع والبيت والهواء الذي أحب.. كنت أمشي وراء نعشه شابا وأبا لأولاد.. وكانت الصورة تحفر في الصدر.. ماذا سأقول لأولادي إذا سألوني عن العيد؟؟ ووجدتني خلف نعشه في نحيب وألم وشوق.. أتدري ياشحرور إلى الآن، وبعد كل ما مر من سنوات، مازال أبي مطبوعاً في الذاكرة، صورة لاتريد أن تبرح، يقف ويقول لي: أي عيد ياولد.. أي عيد..؟؟.
كان الولد شحرور يداري الدموع.. يزرع وجهه في البعيد محاولاً أن يبكي بصمت.. أمسكت يده.. ضممتها إلى صدري.. قلت: والله ياصاحبي لاشيء يشبه الوطن.. لاشيء يشبه صورة البيت هناك.. يحزنني أن يموت والدي دون أن يكحل عينيه برؤية بيته وشارعه.. كان يتمنى أن يدفن هناك.. لكن ماذا نفعل ومازالت الأرض مخنوقة باغتصاب لايرحم.. ويقولون: سلام.. وتطبيع.!! آه لو سمعهم أبي.. لو عرف أنهم ماعادوا يتحدثون عن بيته في حيفا.. عن شارعه.. عن أرضه.. عن كل شجرة من أشجار البرتقال.. لكن ثق ياأبي أننا سنعود.. مهما فعلوا لابد أن نعود..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|