[align=justify]
بداية التغيير
وطرأ تغيير في منتصف عام 1928 حين وقفت حركة الانحدار في الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتجاوز عدد المهاجرين إلى البلاد عدد المهاجرين منها وأصبح عدد اليهود ثلاثة أضعاف عددهم في نهاية الحرب العالمية الأولى أي 150 ألفا.
ولم يكن التغيير في الكمية والنوعية مقتصراًَ على عدد السكان اليهود، ففي هذه الفترة تضاعفت مساحة الملكيات اليهودية في الأراضي وارتفعت من 420 دونم ( في عام 1914 – 1918 ) إلى حوالي المليون دونم في عام 1928 ( ورد في تقرير حكومة فلسطين المقدم إلى لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية في كانون الأول ( ديسمبر) 1945 إن ملكيات اليهود في 1927 بلغت 903 آلاف دونم ) .
ثم إن القيادة الصهيونية في سبيل توطيد مواقفها في فلسطين تشددت في ممارسة سياستها القومية الانعزالية من ناحية والعدوانية من الناحية الأخرى: سياسة احتلال العمل واحتلال الأرض.
وكتب ولتر بريوس كما ذكرنا في كتابه حركة العمال في فلسطين يصف نهج قيادة الهستدروت في هذه الفترة:" ومارس وجود جماهير واسعة من العمال غير المنظمين (وجلهم من العرب ) الذين ألفوا هيئة منافسة، ضغطاً مستمراً على شروط العمل التي فاز بها العمال المنظمون مما جعل الاعتراف القانوني بأساس الاحتلال أمرا ضرورياَ محتماً"(ص90).
وأضاف في فصله الفرعي " العلاقات بين طائفتي العمال اليهود والعرب ، اضطرابات 1929 وأثرها على الحركة العمالية " :
" لقد وجد العامل اليهودي كيانه مهدداً من منافسة العمل الرخيص. وبما أن الأكثرية الساحقة من طائفة العمال اليهود التزمت طبيعياً الفكرة القائلة أن أساس تحقيق الصهيونية خلق جمهور واسع من العمال اليهود في البلاد فقد تعهدوا تعهداً لا رجوع عنه بمبدأ العمل اليهودي في الاقتصاد اليهودي " ( وهو اصطلاح أخر لاحتلال العمل ) ( ص92-93) .
والتزام احتلال العمل أصبح مبدأ من مبادئ الكيبوتسات كما اقرها مجلس توحيدها الذي عقد في بيتح تكفا في 5 آب (أغسطس ) 1927 وجاء فيه " السعي لاحتلال الأعمال للعمال اليهود وتحسين أوضاعهم الاقتصادية أي احتلال العمل في المنشآت اليهودية والحكومية وتطوير فروع عمل جديدة ". ) المصدر ذاته ص 104 ).
وأكد هذا الاتجاه بيرتس مرحاب في كتابه " تاريخ الحركة العمالية في فلسطين ". ففي تعريفه برنامج هبوعيل هتسعير ( أو العامل الشاب – منظمة العمال القيادية في هذه الفترة – أ. ت ) كتب: في تحقيق الصهيونية، يقوم بدور حاسم احتلال المواقع الاقتصادية والثقافية في " ارض إسرائيل ". إن الشرط الضروري للاحتلال الاقتصادي هو تركيز الممتلكات والعمل في أيدي يهود، وأضاف أن دور هبوعيل عتسعير في ارض إسرائيل هو العمل على تحقيق الصهيونية عامة والاهتمام باحتلال العمل ( ص 73 ).
وكان ابرز حدث في الحركة الصهيونية في عام 1929 قيام الوكالة اليهودية.
لقد نصت الفقرة الرابعة من نظام الانتداب الذي اعتمدته حكومة الانتداب على أن الحكومة البريطانية في فلسطين ستعترف بالوكالة اليهودية هيئة عام تقوم بدور النصح وتتعاون مع الإدارة الفلسطينية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما يؤثر على بناء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين.
وفي المرحلة الأولى اعترفت الإدارة الفلسطينية بالمنظمة الصهيونية وكالة يهودية.
ولكن المؤتمر الصهيوني العالمي الثالث عشر الذي عقد في كارلسباد بين 6 و18 آب (أغسطس) 1923 دعا لجنته التنفيذية إلى العمل على إقامة مؤتمر يهودي عالمي يقوم مقام الوكالة اليهودية. وأيد هذه الدعوة المؤتمر الصهيوني العالمي التالي الذي عقد في فينا في آب 1925 اعترافا منه – كما جاء في القرار برغبة اليهود في العالم في المساهمة في بناء الوطن القومي بروح تصريح ( وعد ) بلفور.
وكان أساس التعاون اليهودي العالمي أو هدف هذا التعاون: زيادة الهجرة إلى فلسطين.. واستخلاص الأراضي وجعلها ملكية الشعب اليهودي.. والاستيطان الزراعي الكولونيالي القائم على العمل العبري... وبعث اللغة والثقافة اليهودية ( فكرة الدولة اليهودية بن هلبرن ص 179 ).
وكان القصد من وراء إقامة الوكالة اليهودية استنفار يهود العالم – وخاصة الأغنياء الذين لا يتماثلون مع أيديولوجية الصهيونية الجوهرية (القائمة على جمع الشتات واستحالة العيش في المهجر وإقامة الدولة اليهودية ) استنفارهم لمد يد العون لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين واستقرار اليهود فيها .
واستفز تأليف الوكالة اليهودية على قاعدة عالمية أوسع مخاوف محافل مقررة في الشعب العربي الفلسطيني خصوصاً إزاء ازدياد عدوانية القيادة الصهيونية التي استمدت مزيداً من الثقة من هذه الخطوة. وليس من قبيل الصدفة أن تعتبر المصادر البريطانية والصهيونية حوادث عام 1929 رداً على قيام الوكالة اليهودية. ( كتب هذا بالضبط حاييم وايزمن في كتابه " التجربة والخطأ " ص 331 ).
وقد جرت هذه التغييرات في ظروف عينية أسهمت الممارسة الصهيونية في خلقها، ومن أبرزها ازدياد عدد الفلاحين المعدمين الذين الفوا في هذه الفترة – حسب بيان الحكومة البريطانية في عام 1930- 29.4 % من الفلاحين أو 86,980 عائلة ريفية ( تقرير اللجنة الفلسطينية الملكية لعام 1938 ص 329 ) .
والقول أن الصهيونية أسهمت في زيادة عدد الفلاحين المعدومين يعود إلى أن استملاك المنظمات الصهيونية الأراضي الزراعية أدى إلى إجلاء المزارعين العرب منها، فمعروف أن الإقطاعيين العرب وفي بعض الحالات الإقطاعيين الغائبين (في لبنان) هم الذين باعوا مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي كان يفلحها المزارعون العرب خلال أجيال وبذلك جردوا أولئك المزارعين من حقوقهم وساعدوا الصهيونية، والسلطات البريطانية التي ايديتها، على اقتلاع المزارعين من تربتهم وتشريدهم.
وهكذا فإذا تذكرنا مساوئ حملات احتلال العمل، التي كان العمال العرب ضحيتها، وسياسة الادراة البريطانية في " تفضيل العمال اليهود على العمال العرب " كما أشار إلى ذلك المؤتمر السابع عام 1928. فعندئذ نستطيع أن نتصور شعور النقمة على الإدارة البريطانية والصهيونية في هذه الفترة بين الجماهير الشعبية.
وزاد في هذه النقمة أن البرجوازية العربية الضعيفة جداً كانت تشعر بالخطر على مصالحها من جراء النشاط المتزايد الذي تقوم به البرجوازية اليهودية بالتعاون مع مؤسسات احتكارية أجنبية. ( في هذه الفترة بريطانيا وجنوب أفريقيا في الأساس ).
ولعل قرار المؤتمر السابع الاحتجاج على إعطاء امتياز البحر الميت لشركة أجنبية، والاحتجاج السابق على منح " روتنبرغ " امتياز توليد الطاقة الكهربائية كان تعبيراً عن هذه النقمة الناجمة عن تلك المخاوف.
كل هذا في وقت كانت الحركة القومية تواصل فيه المطالبة بحكم وطني وبدستور يمنح البلاد استقلالها.
حوادث عام 1929
يتفق المؤرخون جميعاً على أن حوادث عام 1929 أدت إلى سقوط قتلى وجرحى من العرب واليهود.
ولكنهم يختلفون على كل شئ أخر حتى على عدد الضحايا من الجانبين التي بلغت حسب الإحصاءات الرسمية آنذاك 133 قتيلاً و339 جريحاً من اليهود و116 قتيلاً و232 جريحاً من العرب.
ومن الممكن إيجاد قطاع واسع من المؤرخين يتفقون على أن الإمبرياليين البريطانيين قاموا بدورهم الخبيث بتأجيج الاحتراب العنصري بين اليهود والعرب استرشاداً بمبدأ " فرق تسد ".
ولكن هنا ينشب الخلاف بين الاتفاق العام. فالصهيونيين يتهمون الإدارة البريطانية في فلسطين في تحريض العرب وتشجيعهم على الإضرار باليهود وبوطنهم القومي. في حين تقوم أطروحة المؤرخين العرب على أن الإمبريالية البريطانية ساندت الصهيونية مساندة كاملة وتعاونت مع قيادتها في فلسطين باستمرار، ولا يغير من هذه الحقيقة وجود خلافات بين الجانبين.
والآن ماذا جرى في عام 1929 ؟ .
تبدأ الرواية العربية بالتأكيد على أن حائط المبكى ، ويسمونه البراق أيضا ليس جزءا من الحائط الخارجي للهيكل القديم فحسب بل هو جزء من الحرم الشريف أيضا ، ولهذا فاليهود يقدسونه والمسلمون يحترمونه احتراماً عظيماً .
كذلك تؤكد الرواية العربية أن البراق ملك للمسلمين منذ الفتح الإسلامي وهم يحتفظون بصكوك بهذا المعنى تخولهم حق إدارة المكان . وخلال السنين والاتفاق غير المكتوب قائم بين إدارة الوقف الإسلامي واليهود المتدينين من حيث الزيارة والصلاة بالقرب منه. وينص الاتفاق على أن لا يقيم اليهود أي بناء بالقرب من الحائط أو يضعوا أي شئ في باحته .
وتلاحظ الرواية العربية أن الإدارة البريطانية حظرت بطلب من الوقف الإسلامي – على المسؤولين اليهود وضع مقاعد في باحة البراق لان ذلك يغير الوضع القائم ويعتبره المسلمون تجاوزاً على حقوقهم، كما أنها أمرت البوليس في أيلول (سبتمبر)1928 برفع الستار الذي وضعه اليهود في عشية عيد الغفران على الرصيف المحاذي للبراق بعد أن شكا ذلك المسلمون.
وبعد ذلك تعرض الرواية العربية الحقائق على الوجه التالي:
· في يوم 14 آب (أغسطس ) 1929 ( عشية 9 آب يوم الصوم استذكاراً بخراب الهيكل ) تظاهر اليهود في تل أبيب وهتفوا: الحائط حائطنا.. العار من نصيب كيث روش (حاكم القدس الذي أمر برفع الستار في العام الماضي). · وفي اليوم التالي جاء وفد من شباب تل ابيب إلى القدس وسويا مع يهودها تظاهروا في مظاهرة صاخبة اخترقت الشوارع في اتجاه حائط المبكى (البراق) وترددت فيها الهتافات نفسها الحائط حائطنا.
· وفي اليوم التالي قام المسلمون بدورهم في مظاهرة صاخبة وصلت إلى باحة البراق (حائط المبكى ) وخلال ذلك قلبوا طاولة الشماس واخرجوا الاسترحامات التي يضعها عادة المصلون اليهود في شقوق الحائط، ومزقوا ثياب الشماس وتفرقوا إلى بيوتهم.
· لقد مرت المظاهرات الثلاث في سلام ولكنها شحنت الجو بالتوتر وأشاعت مزيداً من الشكوك والريبة بين العرب واليهود ولذلك ما إن وقعت حادثة محلة البخارية في القدس (طعن فيها احد العرب احد الشباب اليهود الذي دخل بستانه لاسترجاع كرته في أعقاب مشاجرة بينهما توفي بعدها )، حتى اشتعل الجو وبدأت سلسلة المصادمات بين العرب واليهود في مختلف أنحاء البلاد. وفعلاً في يوم حادثة البخارية، 17 آب ( أغسطس) 1929، وقعت مشاجرة عامة بين العرب واليهود جرح فيها احد عشر يهودياً وخمسة عشر عربياًَ.
· وفي 23 آب سرت إشاعة مفادها أن اليهود قتلوا عربيين " فهاجت خواطر العرب وما لبث أن سرى الهياج إلى القرى المجاورة ثم اتسع وشمل القرى والمدن وفي مقدمتها يافا وحيفا وصفد والخليل، وقامت مظاهرة هائجة في نابلس للإعراب عن سخطها واستيائها وتحولت الاضطرابات في الخليل، إلى مذبحة يهودية عمومية قتل فيها 60 يهودياً وجرح أكثر من خمسين ".
· استمرت الاضطرابات وخلال هذا هجم اليهود على العرب في أكثر من موقع وقتلوا بدورهم بعض العرب ومن بينهم إمام مسجد سكنة ابي كبير وستة من أفراد عائلته.
· وانتهت الاضطرابات في 29 آب 1929 بحوادث صفد حيث قتل وجرح فيها 45 يهودياً وعدد غير محدد من العرب.
· وفي حالات عديدة كانت الضحايا بين العرب نتيجة الاصطدام مع البوليس والجيش الذي استنفر إمدادات وصلت إليه من مصر خلال أيام الاضطرابات الأولى. (اعتمدت في هذه الرواية على كتاب عيسى السفري " فلسطين بين الانتداب والصهيونية " باعتبارها نموذجاً لما كتبه العرب حول هذه الحوادث ص 124-127).
وقوم القوميون العرب هذه الحوادث انتفاضة قومية ضد الصهيونية والانتداب البريطاني.
أما الرواية الصهيونية فتعرض الحقائق على الوجه التالي:
· تؤكد أن الحاكم البريطاني كيث روش بضعفه وتراجعه أمام العرب شجعهم على التمادي في تجاوزهم حقوق اليهود في حائط المبكى.
· المظاهرة التي جرت في القدس كانت احتجاجاً على أعمال العرب الاستفزازية بقذفهم المصلين اليهود بالحجارة في اليوم السابق.
· وتتفق الروايتان حول حادثة البخارية وانتشار الشائعات إلا أن الرواية الصهيونية تقول إن العرب روجوا، متعمدين اهاجة الخواطر، إن اليهود يعدون هجوماً على مسجد الصخرة وقد حرضوا ألاف الفلاحين العرب، الذين تقاطروا على المسجد في القدس من الخليل والقرى المجاورة للصلاة كعادتهم يوم الجمعة من كل اسبوع، فاقترف هؤلاء المذبحة.
· وهناك نسختان للرواية الصهيونية. فرواية تكتفي بالقول إن العرب قتلوا اليهود العزل ولا تذكر عدد القتلى من العرب في هذه الحوادث التي استمرت أسبوعين. ورواية أخرى تلاحظ أن قتل اليهود جرى في المواقع التي لم يكن فيها تنظيم دفاعي في حين صد العرب في المواقع اليهودية المحصنة.
· ويلقى اليهود المسؤولون الصهيونيون مسؤولية خاصة على السلطة البريطانية في الخليل التي لم يتخذ احتياطات دفاعاً عن المواطنين اليهود هناك، على الرغم من تحذيرهم مندوبي السلطة هناك.
وهنا أيضا تتباين ماهية التهم، فمن الكتاب الصهيونيين من يضع اللوم على الإدارة البريطانية المحلية في فلسطين، وهناك من يضعها على الحكومة البريطانية في لندن (اعتمدنا في عرض الرواية الصهيونية في الأساس على كتاب ولمي ل. هل "سقوط إسرائيل ونهوضها " ص 158-159 ) .
أما تقويم الصهيونية لهذه الحوادث فيجمل بوصفهم إياها " المذبحة " (البوجروم) التي لا تختلف عن المذابح التي تعرضت لها الطوائف اليهودية في أوروبا واتسمت بالاسامية . وفي اغلب المصادر الصهيونية يصف الكتاب الصهيونيون حوادث 1929 " بالاجرام " والعرب الذين اشتركوا فيها " بالقتلة والمجرمين ".
وألان ماذا كان المواقف البريطاني الذي تماثل في نظرته إلى الأمور مع الرواية الصهيونية ؟
لقد جسمه المندوب السامي البريطاني جون تشانسلور الذي كان وقت الحوادث في بريطانيا فعاد على إثرها وأصدر بياناً جاء فيه:
" عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد من الأسى أن البلاد في حالة اضطراب فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة.. وقد راعني ما علمته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار سفاكي الدماء عديمي الرأفة وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت في أفراد من الشعب اليهودي خلوا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم وعما إذا كانوا ذكوراً أو اناثاً والتي صحبتها – كما وقع في الخليل- اعمال همجية لا توصف وحرق المزارع والمنازل في المدن والقرى ونهب وتدمير الأملاك.. فواجبي أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد وان اوقع القصاص الصارم بأولئك الذين يثبت أنهم ارتكبوا أعمال عنف " (1)
وهكذا أدانت الإدارة البريطانية العرب " بالجريمة " ولكنها كشفت في الوقت ذاته عن استخدامها هذه " الجريمة " لضرب مطالب الشعب العربي في فسطين.
ففي بيانه المذكور أعلن المندوب السامي كذلك انه سيؤجل المباحثات التي كان ينوي إجراءها مع وزير المستعمرات لإحداث تغييرات دستورية وفقاً لتعهد إعطاء اللجنة التنفيذية العربية التي طالبت في مؤتمرها السابع بحكومة وطنية وعادت وطالبت لمندوب السامي بذلك في حزيران (يونيو) من ذلك العام كما يظهر ذلك من بيانه (نص البيان في كتاب عيسى السفري المذكور ص 129 ).
وعند هذا الحد يصح السؤال: كيف يمكن تقويم هذه الحوادث التي وقعت في عام 1929؟
وهنا لا بد من رؤية وجهيها. فهي لم تكن مجرد اصطدامات بين عرب ويهود ، بل كانت جوهريا هبة جماهيرية في وجه الإدارة البريطانية الإمبريالية ، وهذا ما جسمته التظاهرات الشعبية لا في المدن المختلطة فحسب ، بل في المدن العربية الخالصة مثل نابلس. وهكذا لم تكن هذه التظاهرات عنصرية بالمعنى المعاصر بل كانت معادية للإمبريالية البريطانية.
وهذا ما لاحظته اللجنة التنفيذية في ردها على بيان المندوب السامي فأعلنت " أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إخفاء القومية العربية في وطنها الطبيعي لكي تحل محلها قومية يهودية ولا وجود لها " .
وهذا ما جعل الشيوعيين اليهود والعرب يقيمون الحوادث بعض النظر عن سلبية بعض مظاهرها والمآسي التي سببتها انتفاضة قومية معادية للإمبريالية والصهيونية في جوهرها. وهذا التقويم انزل عليهم غضب القيادة الصهيونية وحقدها فاتهمتهم "بالعمالة" للأممية الثالثة وموسكو.
ولا ينفي تقويم هذه الحوادث بوصفها انتفاضة قومية رؤية وجهها السلبي الناجم عن الانحراف في التوجه النضالي بسبب قيادة الحركة القومية العربية انذاك.
ولكن هذا الوجه السلبي الذي شجعه الإمبرياليون البريطانيون ساعده القادة الصهيونيون في توجههم الانعزالي القومي وسياستهم المعادية للجماهير العربية كما تجلت في احتلال العمل والأرض.
ولا يستطيع الباحث الموضوعي إخفاء مساهمة القيادة الصهيونية في حوادث 1929. واللجنة التنفيذية العربية اعتمدت على الوقائع حين أعلنت في بيانها رداً على المندوب السامي أن أكثر اليهود كانوا مسلحين وان الحكومة سلحتهم، وقد قتلوا مع الجنود النظاميين النساء والأطفال والرجال العرب وكانوا البادئين في بعض الحالات. ( كتاب عيسى السفري ص130) .
ولابد من القول إن القيادة الصهيونية اعتبرت الاصطدام بين العرب واليهود محتوماً وكانت تعد له على كافة المستويات وفي جميع الميادين.
وقد أورد ميخائيل بار زوهر في كتابه " النبي المسلح " تاريخ حياة بن غوريون قول بن غوريون بعد مقتل احد الحراس اليهود في عام 1909:
" ذلك اليوم ( يوم مقتل الحارس ) فتحت عيني وأدركت أن عاجلاً أو آجلا أن ستجري تجربة قوة بيننا وبين العرب.. ومنذ ذلك اليوم في شجرة ( حيث قتل الحارس ) شعرت أن الصراع محتم " .
وأضاف الكاتب أن الصراع اليهودي العربي لم يبدأ في شجرة ولكن في ذلك اليوم من أيام نيسان (ابريل) عام 1909 أدرك أولئك الذين أصبحوا زعماء اليهود فيما بعد انه إن عاجلاً وان آجلا سيصطدم الجنسان وستسود القوة... وحتى قبل حادثة الشجرة كان شعار منظمة (الحارس) التي أقامها بن زفي (رئيس الجمهورية الثاني ) وأصحابه " لقد سقطت (مملكة ) يهودا بالنار والدماء وستنهض من جديد بالنار والدماء " ( ص2) .
لقد اتهم عدد من الكتاب الصهيونيين القيادة العربية بأنها اقحمت الدين في عام 1929 بالصراع السياسي، وبغض النظر عن صحة هذه الحقيقة التي قلنا اتخذت شكلاً تنظيمياً بوصول المفتي الحاج أمين الحسيني إلى القيادة . فالحقيقة التي لا بد من تأكيدها هي أن الصهيونية اعتمدت في بنائها عناصر الدين اليهودي وبذلك سهلت أن تتحول، مشكلة دينية، مثل صلاة اليهود في باحة البراق ( أو حائط المبكي )، إلى قضية سياسية تحرك جماهير تل ابيب والقدس.
ومع هذا فمهما يكن من أهمية لهذا العامل فهو عامل ثانوي لم يبدد العامل القومي .
وهذا ما اعترفت به لجنة التحقيق التي أرسلتها بريطانيا إلى البلاد لتحقق في أسباب الحوادث برئاسة سير ولترشو ، فقد أعلنت أن الصراع ناجم عن التناقض بين الوطن القومي اليهودي ومطالب الحركة العربية القومية بالاستقلال . فتحقيق المطالب القومية العربية يلغي الوطن القومي اليهودي. وعزت اللجنة أسباب التوتر في علاقات الشعبين والحوادث الدامية الناشئة عنه إلى مخاوف العرب من المهاجرين واعتقادهم أنهم لن يكتفوا بمشاركتهم في البلاد.
وأضافت: " واشتدت هذه المخاوف بالتصريحات الصهيونية السياسية الأكثر غلواً مما جعل العرب يرون في المهاجر اليهودي ليس خطراً على مصدر معيشتهم بل سيدا قد يسيطر عليهم في المستقبل . ( تقرير اللجنة الملكية الفلسطينية لعام 1937 ص 68-69) .
الهوامش
1- وفعلاً حكم على 22 عربياً بالإعدام ونفذ الحكم بثلاثة اعتبرتهم الحركة القومية شهداء أبرارا.
المصدر:
ايميل توما، جذور القضية الفلسطينية (الأعمال الكاملة) المجلد الرابع، حيفا 1995.
الكتاب الأبيض والحركة القومية العربية
فسرت لجنة شو ما قصدته بقولها " مخاوف العرب على مصدر معيشتهم "، فكتبت في تقريرها:
" أن بيع أراضي سرسق (1) وشراء اليهود الأراضي في مناطق كانت تربتها على غاية من الإنتاجية اعتبر تأكيداً على أن المهاجرين لن يرتضوا باحتلال المناطق المتخلفة، وان الضغط الاقتصادي على السكان العرب سيزداد " . ( المصدر ذاته ص 69).
وذكرت اللجنة كذلك أن بيوعاً كبيرة وقعت بين 1921 و 1929 كان من جرائها أن اخرج عدد كبير من العرب من أراضيهم دون أن تعد لهم أراضي أخرى يمكن أن ينتقل إليها الأشخاص الذين يخرجون من الأراضي التي يزرعونها ولذلك تنشأ في البلاد الآن طبقة من الأهالي بلا الأرض ومستاءة.. وهذه الطبقة خطر على البلاد (!) وستبقى قضية الأراضي مصدرا دائماً للاستياء الحالي .
(فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية عيسى السفري ص144 )
وأوصت لجنة شو بما يأتي : · أن توضح حكومة بريطانيا سياستها في فلسطين بأقل ما يمكن من التأجيل وتحدد معنى الفقرات التي وردت في نصوص الانتداب بشأن حماية " الطوائف غير اليهودية "
· أن تعيد النظر في أمر تنظيم الهجرة بحيث لا يتكرر تدفق الهجرة الزائدة على البلاد كما حدث في عامي 1925و 1926 وان تتشاور في هذا الشأن مع ممثلي " غير اليهود " .
· التحقيق العلمي الفني تمهيداً لإدخال أساليب زراعية حديثة وانتهاج سياسة زراعية وفقاً لذلك تؤدي إلى زيادة الأراضي الزراعية .
· تأكيد بيان 1922 من أن مكانة المنظمة الصهيونية الخاصة لا تمنحها حق المشاركة أبدا في حكومة فلسطين " تقرير لجنة فلسطين الملكية لعام 1937"ص 71) .
ولكن إذا كان هذا التقرير قد اعترف بمخاوف الجماهير العربية الحقيقية وكشف عن أضرار الاستيطان الصهيوني بانعزاليته القومية، فقد عكس طبيعة السياسة الإمبريالية القائمة على أساس فرق تسد.
حتى حاييم وايزمن لاحظ ذلك فكتب أن تقرير لجنة شو لم يقل شيئاً بشأن بيانات الحكومة البريطانية في فلسطين التي وصفت الاضطرابات وكأنها اصطدامات بين العرب واليهود . فهذه البيانات أظهرت أن شعبين يتحاربان في فلسطين وان الإدارة البريطانية تقف حارساً محايداً على النظام والقانون . (التجربة والخطأ ص 332).
طبعاً كان غضب وايزمن على هذه الإدارة البريطانية في فلسطين ناجماً عن الرغبة في أن تكف هذه الإدارة عن التظاهر بالحياد وان تنفذ وعد بلفور كما تجسم في نصوص الانتداب.
وجدير بالملاحظة هنا أن حاييم وايزمن الذي ربط مصير الوطن القومي اليهودي بمصير الإمبريالية البريطانية كان ينتقد في هذه الفترة الإدارة البريطانية في فلسطين وكأنها هيئة قائمة بذاتها في عزلة عن مخططات الإمبريالية البريطانية الموضوعة في لندن ، وذلك ليقنن الغضب على الارتباط مع بريطانيا بين بعض العناصر الصهيونية التي انطلاقا من ممكنات الارتباط بقوى رجعية دولية أخرى تأففت من هذه السياسة لوتيرتها البطيئة ولمنعها الصهيونية عن اجتياح فلسطين " .
ثم إن هذا التقرير كشف أيضا عن أسلوب الإمبريالية البريطانية التقليدي : أسلوب التهدئة باللجان .
وهكذا ما إن انتهت لجنة شو من عملها حتى الفت الحكومة البريطانية في لندن لجنة جون هوب سمبسون تنفيذاً لتوصية لجنة شو بشأن التحقيق العلمي الفني تمهيدا لإدخال أساليب زراعية حديثة إلى الريف .
وأصدر جون هوب سمبسون تقريره في تشرين الأول (أكتوبر) 1930 فجاء تأكيداً على وجود أزمة زراعية في البلاد .
فقد أعلن أولا أن الأراضي الزراعية تتألف من 6, 544, 000 دونم لا 16,000,000 كما كان يزعم الصهيونيون أو 10,092,000 دونم كما كان يقدر مفوض الأراضي البريطاني.
واستنتج ثانياً إن الأراضي الزراعية ، حتى لو وزعت بين الاهلين العرب توزيعاً تاماً ، فلا يمكن أن تؤمن للعائلات الريفية حياة مقبولة .
ولذلك فما لم يجر تطوير الأراضي اليهودية ، ويتم تنظيم الري ، ويستخدم العرب أساليب أفضل فلن يكون هناك مكان لمستوطن أخر ، هذا إذا كانت هناك رغبة في الاحتفاظ بمستوى معيشة الفلاحين على المستوى القائم ... ولا مكان للاستيطان على الأراضي الأميرية ما لم يجر تطويرها .
وهكذا ربط سمبسون أمرا طالما أبرزته طليعة الحركة الوطنية في فلسطين آنذاك ، وهو إن استملاك الهيئات الصهيونية الأراضي العربية لا يعني – خسارة الملكية فحسب – بل خسارة في ميدان العمل أيضا .
فمنظمات استملاك الأراضي الصهيونية نصت في دساتيرها ما جاء في دستور الوكالة اليهودية في المادة الثالثة : تستملك الأراضي كملك لليهود وتسجل باسم صندوق رأس المال القومي اليهودي وتبقى مسجلة باسمه إلى الأبد كما تظل هذه الأملاك ملكاً للأمة اليهودية غير قابل للانتقال . وتنشط الوكالة الاستعمار الزراعي عن طريق العامل اليهودي ، والمبدأ العام الذي يتبع في جميع الأشغال والمشاريع التي تقوم بها الوكالة وتنشطها هو استخدام اليهود .
والدعوة إلى قصر العمل على العمال اليهود نصت عليه عقود إيجار – الكيرن كايكايمت- والكيرن هايسود – منظمتا شراء الأراضي العربية وتطويرها – بالاستيطان الصهيوني – وهكذا في حالة الكيرن كاييمت نص العقد على أن المستأجر يتعهد إجراء جميع أشغال الفلاحة باستخدام عمال يهود . وفي حالة الكيرن هايسوت كان على المستأجر أن يتعهد بأن يستأجر عمالاً من اليهود فقط إذا اضطر لذلك .
لم ير المبعوث البريطاني سبمسون حقيقة الأزمة الزراعية بتمامها بل رأى جانباً منها . فالأزمة الزراعية في فلسطين نجمت عن الملكية الكبيرة من ناحية وتخلف وسائل الإنتاج من ناحية ثانية وعلاقات أسياد الأرض والمستأجرين من ناحية ثالثة .
أما الجانب الذي كشفه لم يكن سوى عامل تعميق الازمة الزراعية فبيوع الأراضي شرد مزيداً من الفلاحين العرب عن الأرض وخلق ضغوطاً جديدة في الريف .
وهنا تبدو سخافة مزاعم الصهيونية حول دورها في " ضرب الإقطاعية " !! ، و"القيام بالإصلاح زراعي " .
فالواقع أن الإقطاعية كانت حليفة الصهيونية لأنها توافقت مصالحها مع مصالح الصهيونيين . فالإقطاعيون أرادوا بيع أراضيهم والتخلص من المزارعين وحقوقهم المعروفة ، والصهيونيون اشتروا هذه الأراضي وشردوا الفلاحين . والإصلاح الزراعي الذي يأخذ شكل مصادرة أراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين أصبح في ظروف ممارسة الصهيونية تعويضاً على الإقطاعيين الذين نهبوا أراضي الفلاحين أصلا وتجريد الفلاحين من أراضيهم ، وقد لاحظ سمبسون وجود البطالة في الميدان العربي ووصفها بأنها خطيرة وكتب في تقريره انه من الخطأ أن يأتي يهودي من بولونيا أو ليتواينا أو اليمن ليملأ مكانا شاغرا في فلسطين في حين أن هناك عاملاً محلياً يستطيع ان يملؤه . (المصدر ذاته 72).
ولكنه في الوقت ذاته تفهم الموقف الصهيوني حيث استطرد أن رأس المالي اليهودي لن يأتي إلى فلسطين من اجل تشغيل العمال العرب ولكنه يأتي بالتحديد لتشغيل العمال اليهود.
وباختصار أكد سمبسون مبدأي الصهيونية أو القومية المتعصبة الانعزالية : احتلال الأرض واحتلال العمل ، هذين المبدأين الذين حفرا خنادق التباعد بين العرب واليهود منذ البداية وقد أدرك خطر السياسة الصهيونية الشيوعيون اليهود وحتى في عام 1919 قال احدهم مخاطباً العمال :
" ابحثوا عن طريق جديدة مأمونة، جدوا طريق السلام مع جماهير العاملين من الشعب المقيم هنا ... تذكروا انه مع كل مواطن أو صديق صهيوني يأتي إلى هنا كي يخلص المزيد من الأرض ويستغل سكانها إنما يضيف مزيداً من المواد المتفجرة تحت أسس بناتنا ".
الكتاب الأبيض لعام 1930
وفي الفترة الواقعة بين تقرير لجنة شو وتقرير جون هوب سمبسون سافر وفد عربي فلسطيني رابع إلى لندن ليباحث الحكومة البريطانية بشأن مطالب الشعب العربي التي بدأت تتبلور بشعارات ثلاثة: منع البيوع ووقف الهجرة ومنح الدستور.
ولكن هذا الوفد الذي ضم العناصر التقليدية في الحركة القومية العربية في فلسطين وجمع بين الجناحين ( الحسيني والنشاشيبي كما درجت الناس على أن تصفهما )، اخفق في مهمته. وفي 13 نيسان ( ابريل ) 1930 أصدرت الحكومة البريطانية بياناً أعلنت فيه أنها أخذت علماً بمطالب الوفد و " أن التغيرات الدستورية الشاملة التي يطلبها لا يمكن قبولها كلها لانها تعرقل عمل الحكومة في القيام بالتزاماتها بمقتضى الانتداب " وأضاف البيان أن الحكومة البريطانية أفهمت الوفد بأن لا سبيل للنظر في أي اقتراح لا يطبق على مقتضيات الانتداب.
( فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ص 149 ).
وفي أعقاب هذا البيان أصدرت الحكومة البريطانية بياناً أخر في 20 أيار ( مايو) 1930 عادت فيه على ماجاء في بيانها السابق بِشأن الالتزامات والعهود المترتبة عليها بموجب صك الانتداب، وذكرت مهمة سمبسون، وتعهدت باتخاذ إجراءات سريعة لحماية مصالح الطبقة الزراعية وأكدت أن لا مسوغ لمخاوف أولئك الذين يقلقون على كيان الشعب العربي في فلسطين... وستنزل الحكومة ( وهذه كانت لازمة عامة في تصريحات ممثلي الإمبريالية البريطانية ) اشد العقاب بالذين يخلون بالنظام !!!
وعلى هذا الضوء يمكن رؤية السياسة البريطانية بأشكالها التقليدية: تهدئة اللجان، تأكيد على حماية مصالح الجميع، التمسك بالتعهدات، حتى لو كانت متضاربة، تنمية التناحر المحلي وفقاً لسياسة فرق تسد.
وتجسدت هذه السياسة في كتاب ابيض جديد صدر في 24 تشرين أول (أكتوبر ) 1930 قيل أن واضعيه استرشدوا بتقرير لجنة شو واستنتاجات جون هوب سمبسون.
وفي هذا الكتاب أكدت الحكومة البريطانية على بعض الملامح السياسية التي بدأت تستخدمها لتوطيد مواقعها فهي لم تعد تكتفي بالقول إنها حكم يفصل بين الشعبين بل أصبحت تضع على الشعبين ضرورة الوصول إلى مفاهيم بينهما في وقت كانت تخلق الظروف لتباعدهما وتناحرهما.
وهكذا جاء في الكتاب الأبيض لعام 1930: أن توطيد السلام والرفاهية في البلاد في المستقبل يتوقف على تحسين العلاقات بين العرب واليهود وان الحكومة البريطانية تشعر أن في الامكان الوصول إلى ذلك إن تعاون كلا الفريقين معها ومع ادراتها في فلسطين .
لقد كان الكتاب الأبيض رفضاً للمطالب العربية الاستقلالية، وجاء فيه أن المطالب العربية بشأن إيجاد شكل دستوري نيابي تتنافى مع التزامات الحكومة البريطانية ، ولكنه كان أيضا محاولة لإقناع الجماهير العربية برغبة الحكومة البريطانية في " تسوية " القضية الدستورية .. ولهذا أضاف الكتاب الأبيض إلى هذا الرفض وعدى جاء فيه أن الوقت قد حان للسير في مسألة منح فلسطين درجة من الحكم الذاتي لمصلحة جميع السكان إلى امام بدون تأخير.
وكثفت الحكومة البريطانية محاولتها كسب عطف الجماهير العربية فأعلنت في الكتاب الأبيض انه لا يوجد، نظرا لطرق الزراعة القائمة، أي أراضي ميسورة لاستيطان المزارعين من المهاجرين " اليهود " الجدد ، وان البيانات تحمل على الاعتقاد بأن درجة البطالة بين الاهلين العرب وصلت حداً خطراً ولذلك يجب تخفيض الهجرة أو وقفها ما دامت هذه الهجرة تسبب حرمان السكان العرب من الحصول على الأشغال الضرورية لمعيشتهم.(المصدر ذاته 160 – 164 ).
كان يكفي أن يبدو الكتاب الأبيض اقرب إلى المواقف العربية الرسمية حتى تهب المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية إلى مقاومته لأنه كما لخص ذلك حاييم وايزمن " يهدف إلى جعل عملنا ( عمل الصهيونيين – أ . ت ) مستحيلاً ".
وجدير بالذكر أن الحكومة البريطانية التي أصدرت هذا الكتاب الأبيض كانت حكومة حزب العمال البريطاني الذي كان يؤيد دون تحفظ المشروع الصهيوني ويضم بين جوانبه منظمة عمالية صهيونية. وان كان هذا "التناقض" يدل على شئ من الأشياء فعلى انتماء قادة حزب العمال البريطاني إلى محافل الإمبريالية البريطانية التي رأت في ذلك الوقت أن عليها أن تناور وتبدي شيئا من التحفظ المؤقت على اعتبار أن دفع المشروع الصهيوني في فلسطين إلى امام قد يولد انفجارا بين الجماهير العربية .
وتأكدت هذه الحقيقة عند صدور الكتاب الأبيض اللاحق " لعام 1930 " للمقاصد ذاتها في ظروف دولية أخرى عن حكومة حزب المحافظين، حزب الاحتكارات الكبرى .
وأما البرهان على ماهية السياسة البريطانية القائمة على سياسية فرق تسد ، ووضع الوطن القومي اليهودي امام الحركة القومية العربية التحررية وتأييد الوطن القومي اليهودي بحيث يصبح موازياً في توزان القوى في فلسطين لحركة الشعب العربي التحررية في فلسطين .. إن البرهان على كل هذا جاء حين " فسرت " الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض في رسالة بعثت بها إلى حاييم وايزمن بتاريخ 13 شباط ( فبراير ) 1931. ووصفها العرب " بالرسالة السوداء ".
لقد صدرت هذه الرسالة تجاوباً مع عاصفة من نقد الكتاب الأبيض أطلقتها المحافل الإمبريالية البريطانية التي كانت ترى في توطيد الوطن القومي اليهودي توطيداً لمواقفها في العالم العربي وكانت ترى في الكتاب الأبيض مناورة انتهى مفعولها ودورها، وروجت موقفها في الصحافة البريطانية ونجحت في خلق جو موافق لصدور تلك الرسالة.
وفي هذه المماحكة الداخلية لعب حاييم وايزمن دوره فاستقال من رئاسة الوكالة اليهودية ليستنفر قوى الصهيونية مع انه لم يتوقف عن العمل لحظة واحدة وكان يتنقل في محافل لندن السياسية متساوقاً مع كبار الإمبرياليين البريطانيين الذين مارسوا ضغوطهم عن طريق نوابهم في البرلمان البريطاني .
إن الكتاب البريطانيين ينفون أن تكون " الرسالة السوداء " قد ألغت الكتاب الأبيض ويصرون، في أكثر الحالات أنها غيرت لهجة الكتاب الأبيض لاغير ( تقرير بشأن فلسطين أعدته الحكومة البريطانية 1945 لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية ص 29 ) .
ولكن الواقع يختلف تماما عن هذا الزعم فالرسالة فعلاً ألغت مفعول الكتاب الأبيض وخاصة في أهم قضية فيه ، قضية تطوير الحكم الدستوري وتقليص الحكم الإمبريالي المباشر .
ثم إن " الرسالة السوداء " أعلنت عن وجود أراضي للاستيطان الصهيوني ، ووافقت على استمرار هجرة العمال اليهود للعمل في منشآت رأس المال اليهودي (المصدر ذاته ص29 ) .
واستنفرت هذه التطورات تشديد عداء الشعب العربي الفلسطيني لمبادئ الانتداب والحكم البريطاني الذي وقف سداً عنيفاُ امام طموح الأهالي امام الاستقلال .
التحول في الحركة القومية العربية
ولم تستنفر هذه التطورات مجرد عداء الشعب العربي الفلسطيني بل استنفرت تمايزاً واضحاً في القوى السياسية العاملة على المسرح السياسي العربي.
وكان من الممكن رؤية تيارين بعد 1931: تيار يغلب الطابع الإسلامي على الحركة القومية العربية ويضفي على الصراع لونا دينيا بحيث يصبح الصراع القومي صراعا دينيا . وتيار يتخلص من النظرة الدينية أولا، ويتجاوز النظرة الجانبية التي رأت الصراع صراعاً بين اليهود والعرب ثانيا، وتتضح رؤياه ثالثا فيرى المعركة الجوهرية بين الحركة القومية العربية والإمبريالية البريطانية التي تسخر الصهيونية لمقاصدها.
وإذا كان المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في القدس في 7 كانون الأول (ديسمبر) 1931 قد مثل التيار الأول.. فمؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الأول الذي عقد في 4 كانون الثاني (يناير) 1932 مثل التيار الثاني.
وظهر الفرق في التيارين في بناء كل من المؤتمرين، فالمؤتمر الإسلامي العام جمع ممثلين من أكثر من 20 قطراً كانوا في كثير من الحالات رجال دين أو دنيا لا ينتسبون إلى حركات عامة .. أو يمثلون حركات مغرقة في الرجعية مثل أولئك الذين زعموا أنهم يمثلون روسيا الآسيوية !! في حين تألف مؤتمر الشباب العربي من أبناء فلسطين وصدر عن مفاهيم قومية عربية .
كذلك ظهر طابع المؤتمر من قراراته التي تركزت على "تنمية التعاون بين المسلمين"!!و "حماية المصالح الإسلامية وصيانة المقدسات "! و "إنشاء جامعات تعمل على توحيد الثقافة الإسلامية " وبذلك تجاهل اليقضة القومية العربية في فلسطين أو حاول إخضاعها لفكرة الجامعة الإسلامية الرجعية.
وكان من المفارقات فعلاً أن يعقد المؤتمر في وقت نمو الحركة القومية العربية في فلسطين والعالم العربي فلا يتعرض بالتحديد لقضايا النضال الاستقلالي ويكتفي بإعلان المؤتمر استنكاره لأي نوع من أنواع الاستعمار بما فيه الاستعمار الروسي !! في بلاد تركستان .
لقد اهتم المؤتمر " بمقاومة الإلحاد " ودعا إلى صد الغارة على الدين ولم يرفع نداء الجماهير العربية في فلسطين من اجل الاستقلال.
ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تذهب قراراته العملية من مثل: إقامة الجامعة الإسلامية في القدس وإقامة شركة لإنقاذ الأراضي العربية في فلسطين وتأسيس شركة زراعية كبرى يشترك فيها العالم الإسلامي ، أدراج الرياح ولا يبقى اثر للمؤتمر ذاته(1).
ولعل العناصر العربية الواعية نسبياً أدركت ضيق أفق هذا المؤتمر أو لعلها اندفعت بدافع اليقظة القومية حين تنادت بعد اشتراكها في المؤتمر الإسلامي لتعقد مؤتمراً لها في القدس قررت فيه الدعوة إلى مؤتمر عربي حقيقي وقررت سيادة العامل القومي العربي في قرار اتخذته وأعلنت فيه " أن البلاد العربية وحدة تامة الأجزاء وكل ما طرأ عليها من أنواع التجزئة فالأمة العربية لا تقره ولا تعترف به ويجب توجيه الجهود في كل قطر من الأقطار العربية إلى وجهة واحدة هي استقلالها التام ومقاومة الاستعمار ".
ولم يكن مؤتمر الشباب العربي الفلسطيني هو مظهر التحول الوحيد في وجهة الحركة القومية العربية. فالمناخ السياسي في فلسطين بدأ يتغير في أعقاب 1931 نتيجة عوامل موضوعية وذاتية.
أما العوامل الموضوعية لذلك فكانت في ثلاثة ميادين: · في نمو البرجوازية العربية الفلسطينية البطئ جداً واكتشافها أن الطريق مسدود أمامها بفضل الإمبريالية والصهيونية الأقدر على الحركة. وقد حاولت البرجوازية العربية التحرك فأقامت البنك العربي في عام 1930 وبدأت تعد لإقامة بنك زراعي صناعي.
· في استمرار عملية إجلاء الفلاحين العرب عن الأراضي التي باعها الإقطاعيون للهيئات الصهيونية، ففي هذه الفترة تم إجلاء عرب وادي الحوارث وقدرت مساحة الأراضي التي كانوا يعملون فيها بـ 40 ألف دونم مما عكس الأزمة الزراعية وأكد مخاوف الفلاحين من الاستيطان الصهيوني، وظهرت خطورة ذلك من تقرير سمبسون الذي جاء فيه أيضا أن عدد الفلاحين الذين بلا ارض يبلغ 86,980 عائلة ريفية تمثل 29.4% من العائلات العربية التي تعتمد على الزراعة. ( حول الحركة العربية الحديثة الجزء الثالث محمد عزة دروزة ص 94 والملحق ص 292 ).
· في نمو الطبقة العاملة العربية تنظيمياً، ففي عام 1930 عقد مؤتمر العمال العرب الأول وقد بادرت إليه جمعية العمال العرب الفلسطينية التي قامت في حيفا عام 1925 . لقد تماثل هذا المؤتمر مع حركة التحرر القومي العربية وساعدها على تأكيد الطابع المعادي للإمبريالية.
ومن البديهي أن هذه العوامل الموضوعية حركت قوى وطنية أولا، وساعدتها على الرؤيا الصحيحة ثانياً، فبدأت تتنظم ثالثاً ، وبذلك غيرت وجهة الحركة القومية العربية وأضعفت الطابع الديني الذي حاولت بعض القوى إضفاءه على مجموعة من الحركة القومية العربية .
وهكذا مكان في وسع أمين سعيد صاحب " الثورة العربية الكبرى " أن يكتب في مطلع وصفه هبة 1933 ما يأتي:
" ورأى مفكرو العرب أن يكون النضال في المرحلة الجديدة موجهاً ضد الإنجليز باعتبارهم المسئولين عن السياسة التي ترمي إلى محوهم وابادتهم وباعتبارهم حماتها و منفذيها ".
الهوامش
1- العائلة الإقطاعية اللبنانية الغائبة (سرسق) التي باعت مرج ابن عامر للكيرن كاييمت ( مؤسسة شراء الاراضي الصهيونية ) .
2- استعرض عيسى السفري في كتابه هذا المؤتمر، ص 1778.
المصدر:
ايميل توما، جذور القضية الفلسطينية (الأعمال الكاملة) المجلد الرابع، حيفا 1995.[/align]