رد: سلسلة جاهلية
جاهلية 5
الجهل سيد الوقت .
الأمية كتعريف بسيط لها هي ألا تعرف كيف تُقرأ الحروف الأبجدية وكما يجب أن تُقرأ .. ألف .. باء .. تاء ..الخ .
الأمية هي ألا تعرف القراءة .. وإن عرفت كيفية هذه القراءة أو تعلمت تهجئة هذه الحروف فإنك تخرج من خانة الأميين وتدخل إلى خانة جديدة هي خانة غير الأميين .. ومن أتباع هذه الخانة هم المتعلمون والمثقفون والأدباء والشعراء والكتاب والفقهاء والمشرعون ومسميات كثيرة يصعب وصفها وتصنيفها الآن .. هذا إن مارست عملية التهجئة بإتقان .. وكوفئت جهودك بشهادة أو أكثر تتزين فيها جدران حياتك..
الأمية هيَّ ألا تقرأ .. باختصار شديد هي كذلك .. لكن أن لا تفهم ما تقرأه هذا لا علاقة له بالأمية ولا يحتاج إلى فصول مكثفة من محو الأمية .. والدليل أن نسبة من يقرأ دون أن يفهم ما يقرأه قد تفوق كل النسب ومع ذلك فهؤلاء يتمتعون بصفة " غير أميّ " ولا يحتاج حاملها إلى فصول مكثفة من محو الأميّة ..
أن لا تفهم ما تقرأه هذه لا يمكن تصنيفها بأنك شخص أميٌّ .. ولكن هذا لا يمنع من تصنيفها بأنك شخص جاهل .. فالجهل لا علاقة له بالقراءة والكتابة .. الجهل لا علاقة له بالحروف الأبجدية من حيث عددها .. أو من حيث تراكيبها اللغوية العجيبة كأن تتوجها بقوافٍ مزيفة كدس السمِّ في الشهد .. أو تركها منثورة تثير الاشمئزاز على مساحات من البياض الجليل .. الجهل هو ألا تفهم نفسك .. وألا تفهم كل ما يدور من حولك .. والجهل الأكبر ألا تسمح لنفسك أن تفهم شيئاً .. أو أن تسعى لمحاولات غير مقصودة من الفهم والإدراك والاستدراك ..
لماذا نقمع أنفسنا .. لماذا نمنعها من الفهم والاستفهام والإدراك والاستدراك .. لماذا نمنع أنفسنا من أن تشعر بغيرها .. وتُحسُّ بكل ما حولها ومن حولها .. لماذا نقتل بذرة الإحساس فينا .. ألأننا ببساطة شديدة نحب أن نئد كل ما يمكن أن يقف في طريق جهلنا ؟
عقدة كبيرة في حياتنا تبدأ صغيرة كعقلة الأصبع ثم تكبر كوحش يبتلعنا ويبتلع كل شيء من حولنا .. هذه العقدة أسمها " أنا " وتعريفها ببساطة شديدة هو تراكم الجهل في داخل النفس وفي مدارك العقل وفي مسارب التفكير بحيث يسدُّ جميع المنافذ لتدخل الأنا .. والأنا فقط .. لتتربع على عرش الجهل .. وتأخذ أكبر مساحة لها .. ثم ترفع راياتها المختلفة .. الجاهل الشاعر .. الجاهل الكاتب .. الجاهل الأديب .. الجاهل المسؤول .. الجاهل الجاهل .. وهذا طبعاً الزعيم في الجهل والجاهلية لأنه أي هذا الأخير " الجاهل الجاهل " يخرج من مصافِ البشر ليدخل في مصافِ الآلهة فيظن نفسه أنه الإله على هذه الأرض .. طبعاً لا أدري إن كان يعترف بوجود إله غيره هو الله جلَّ وعلا .. الله الذي خلقه وقادر على أن يطمسه .. ولكنه يمهله ولا يهمله .. أم أن الأنا في داخله طغت فطمست كل شيء لا يتناسب ومقاييسه .
هذا الجاهل الإله لا يعرف أن للألوهية صفات وقدرات جاهل مثله لا يفهمها ليس لأنه لا يقرأ ولا يكتب على العكس بل هو ممن يجيد القراءة والكتابة ونظم الأشعار وزرع القوافي في كل ما لذ وطاب .. لكنه لا يحتاج أن يفهم ما هي الألوهية وما هي صفاتها ولماذا تكون فقط لواحد أحد .. هو فقط يريد أن يفهم حقيقة واحدة فقط هي أنه شاعر .. وكما يجيد فرض قوافيه في آخر الكلمات .. يجيد اغتصاب كل شيء !
يجيد اغتصاب الحقوق والحريات والمشاعر التي تخص الآخرين .. الآخرون العبيد .. لأنه هو السيد وكل ما عدا ذلك فهم عبيد لديه .. من حقه أن يرفع عصاه الغليظة في وجوهم البريئة وقت يشاء لأنه السيد .. ولأنه أراد .. ويريد ذلك .. أليس هو الإله الجاهل على هذه الأرض .. ولا يرى ولا يسمع سوى صوت جهله وجهل العبيد الذي يعملون تحت إمرته ..
هذا الإله الجاهل للأسف الشديد هو سيد وقتنا وعصرنا وزماننا ومكاننا .. وهو الولي على
" العصا لمن عصى ".. والوصي على أبيات الشعر " لا تشتري العبد إلا ومعه العصا " .. وهو صاحب فكرة الوأد ثم الوأد ثم الوأد لكل ما لا يعجبه .. وصاحب فكرة الأخذ ثم الأخذ ثم الأخذ دونما عطاء .. والبطش في استخدام القوة .. وظلم جميع العبيد الذين خلقوا فقط ليقبض أرواحهم إن استطاع إلى ذلك سبيلاً .. بعد أن يعذبها بسياط قوافيه التي تتربع على عرش الجهل والأنا الجاهلية ..
هذا الجاهل الإله هو سيد الوقت .. إن لم يجد من يكسر عقاربه ويفتتها ويلقي بها إلى أتون الجحيم ليصهر قوافيها الموبوءة قبل أن ينتشر وباء الأنا فيها .. ويستفحل الجهل أكثر فأكثر .. فيسقط علينا المطر من سماء الجاهلية ..
هذا الجاهل الإله هو سيد هذا الوقت الذي يفترش له مساحات من الجاهلية في عقولنا وضمائرنا وقلوبنا .. تسمح له أن يبطش بنا .. وأن نستسلم لبطشه .. بل وأن نسلمه رقابنا ليعمل فيها سيفه قبل العذل .. ثم ننحني لإله من الورق لا يعرف شيئاً عن الخلق وعمن خلق الخلق .. لا يعرف ولا يتقن سوى دس القوافي المسمومة في نهاية كل سطر ..
إنه الجهل سيد هذا الوقت ..
|