خريج كلية الاداب كاتب و اديب، يهتم بالشعر والدراسات النقدية
مقتطف من كتاب في ظلال القران ....سورة الدخان
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
تعريف بسورة الدخان
[align=justify] يشبه إيقاع هذه السورة المكية , بفواصلها القصيرة , وقافيتها المتقاربة , وصورها العنيفة , وظلالها الموحية . . يشبه أن يكون إيقاعها مطارق على أوتار القلب البشري المشدودة .
ويكادسياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة , ذات محور واحد , تشد إليه خيوطها جميعاً . سواء في ذلك القصة , ومشهد القيامة , ومصارع الغابرين , والمشهد الكوني ,والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة . فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة , كما يبثها هذا القرآن في القلوب .
وتبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة فيها يفرق كل أمر حكيم ,رحمة من الله بالعباد وإنذاراً لهم وتحذيراً . ثم تعريف للناس بربهم: رب السماوات والأرض وما بينهما , وإثبات لوحدانيته وهو المحيي والمميت رب الأولين والآخرين .
ثم يضرب عن هذا الحديث ليتناول شأن القوم: (بل هم في شك يلعبون)! ويعاجلهم بالتهديد المرعب جزاء الشك واللعب:(فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذاعذاب أليم). . ودعاءهم بكشف العذاب عنهم وهو يوم يأتي لا يكشف . وتذكيرهم بأن هذا العذاب لم يأت بعد , وهو الآن عنهم مكشوف , فلينتهزوا الفرصة , قبل أن يعودوا إلى ربهم , فيكون ذلك العذاب المخوف:(يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون). .
ومن هذا الإيقاع العنيف بمشهد العذاب ومشهد البطشة الكبرى والانتقام ; ينتقل بهم إلى مصرع فرعون وملئه يوم جاءهم رسول كريم , وناداهم: أن أدوا إليَّ عباد الله إني لكم رسول أمين . وألا تعلوا على الله . . فأبوا أن يسمعوا حتى يئس منهم الرسول . ثم كان مصرعهم في هوان بعد الاستعلاء والاستكبار: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين . كذلك وأورثناها قوماً آخرين . فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين). .
وفي غمرة هذا المشهد الموحي يعود إلى الحديث عن تكذيبهم بالآخرة , وقولهم: (إن هي إلاموتتنا الأولى وما نحن بمنشرين , فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) ليذكرهم بمصرع قوم تبع , وما هم بخير منهم ليذهبوا ناجين من مثل مصيرهم الأليم .
ويربط بين البعث , وحكمة الله في خلق السماوات والأرض , (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق . ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
ثم يحدثهم عن يوم الفصل: (ميقاتهم أجمعين). وهنا يعرض مشهداً عنيفاً للعذاب بشجرة الزقوم , وعتل الأثيم , وأخذه إلى سواء الجحيم , يصب من فوق رأسه الحميم . مع التبكيت والترذيل: (ذق إنك أنت العزيز الكريم . إن هذا ما كنتم به تمترون). .
وإلى جواره مشهد النعيم عميقاً في المتعة عمق مشهد العذاب في الشدة . تمشياً مع ظلال السورة العميقة وإيقاعها الشديد . .
وتختم السورة بالإشارة إلى القرآن كما بدأت:(فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون). . وبالتهديد الملفوف العنيف:(فارتقب إنهم مرتقبون).
إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها , في إيقاع سريع متواصل .تهجم عليه بإيقاعها كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع . وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض , والدنيا والآخرة , والجحيم والجنة , والماضي والحاضر , والغيب والشهادة , والموت والحياة , وسنن الخلق ونواميس الوجود . . فهي - على قصرها نسبياً - رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود . .
الدرسالأول:1 - 8 ليلة إنزال القرآن المباركة وخلافة الرسالة
(حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرقك لأمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم .ربالسماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين . لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين). .
تبدأ السورة بالحرفين حا . ميم . على سبيل القسم بهما وبالكتاب المبين المؤلف من جنسهما . وقد تكرر الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور ; فأما عن القسم بهذه الأحرف كالقسم بالكتاب , فإن كل حرف معجزة
إِنَّاأَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَايُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
حقيقية أو آية من آيات الله في تركيب الإنسان , وإقداره على النطق ,وترتيب مخارج حروفه , والرمز بين اسم الحرف وصوته , ومقدرة الإنسان على تحصيل المعرفة من ورائه . . وكلها حقائق عظيمة تكبر في القلب كلما تدبرها مجرداً من وقع الألفة والعادة الذي يذهب بكل جديد !
فأما المقسم عليه فهو تنزيل هذا الكتاب في ليلة مباركة:
(إنا أنزلناه في ليلة مباركة . إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم). .
والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي - والله أعلم - الليلة التي بدأ فيها نزوله ; وهي إحدى ليالي رمضان , الذي قيل فيه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن). .والقرآن لم ينزل كله في تلك الليلة ; كما أنه لم ينزل كله في رمضان ; ولكنه بدأ يتصل بهذه الأرض ; وكانت هذه الليلة موعد هذا الاتصال المبارك . وهذا يكفي في تفسير إنزاله في الليلة المباركة .
وإنها لمباركة حقاً تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية , والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر ; والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة , تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة ; وتقيم على اساسها عالماً إنسانياً مستقراً على قواعد الفطرة واستجاباتها , متناسقاً مع الكون الذي يعيش فيه , طاهراً نظيفاً كريماً بلا تعمل ولا تكلف ; يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين .
ولقدعاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء , موصولين مباشرة بالله ; يطلعهم أولاً بأول على ما في نفوسهم ; ويشعرهم أولاً بأول بأن عينه عليهم , ويحسبون هم حساب هذه الرقابة , وحساب هذه الرعاية , في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم ; ويلجأون إليه أول ما يلجأون , واثقين أنه قريب مجيب .
ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً موصولاً بالقلب البشري , يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر ; ويحول مشاعره بصورة تحسب أحياناً في الأساطير !
وبقي هذا القرآن منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان . حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع , بكل خصائصه دون تحريف . وهذه سمة المنهج الإلهي وحده . وهي سمة كلما يخرج من يد القدرة الإلهية .
إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم , وما يصلح لفترة من الزمان , ولظرف خاص من الحياة . فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال , والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين ; جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب .
أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة . . أولاً للإنذار والتحذير: (إنا كنا منذرين). فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه .
وهذه الليلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلاً وفارقاً بهذا التنزيل:
(فيها يفرق كل أمر حكيم). .
وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر , وفصل فيها كل شأن , وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق , ووضعتالحدود , وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يومالدين ; فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح ولا مرسوم فيدنياالناس , كما هو واضح ومرسوم في الناموس الكلي القديم .
وكان ذلك كله بإرادة الله وأمره , ومشيئته في إرسال الرسل للفصل والتبيين:
(أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين).
وكا نذلك كله رحمة من الله بالبشر إلى يوم الدين:
(رحمة من ربك إنه هو السميع العليم). .
وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في تنزيل هذا القرآن , بهذا اليسر , الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب , ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق .وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم , والمجتمع البشري إلى حلم جميل , لولا أنه واقع تراه العيون !
إن هذه العقيدة - التي جاء بها القرآن - في تكاملها وتناسقها - جميلة في ذاتها جمالاً يحبّ ويعشق ; وتتعلق به القلوب ! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمرالخير والصلاح . فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق . الجمال الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها , ثم يجمعها , وينسقها , ويربطها كلها بالأصل الكبير .
(رحمة من ربك) نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة . . (إنه هو السميع العليم). يسمع ويعلم , وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون ومايعملون , وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم .
وهو المشرف على هذا الكون الحافظ لمن فيه وما فيه:
(رب السماوات والأرض وما بينهما . إن كنتم موقنين). .
فما ينزله للناس يربيهم به , هو طرف من ربوبيته للكون كله , وطرف من نواميسها لتيتصرف الكون . . والتلويح لهم باليقين في هذا إشارة إلى عقيدتهم المضطربة المزعزعةالمهوشة , إذ كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض , ثم يتخذون من دونه أرباباً , مما يشي بغموض هذه الحقيقة في نفوسهم وسطحيتها وبعدها عن الثبات واليقين .
وهو الإله الواحد الذي يملك الموت والحياة ; وهو رب الأولين والآخرين:
(لا إله إلا هو يحيي ويميت , ربكم ورب آبائكم الأولين). .
والإحياء والإماتة أمران مشهودان للجميع , وأمرهما خارج عن طاقة كل مخلوق . يبدو هذا بأيسر نظر وأقرب تأمل . . ومشهد الموت كمشهد الحياة في كل صورة وفي كل شكل يلمس القلب البشري ويهزه ; ويستجيشه ويعده للتأثر والانفعال ويهيئه للتقبل والاستجابة .ومن ثم يكثر ذكره في القرآن وتوجيه المشاعر إليه ولمس القلوب به بين الحين والحين .[/align]