أبجدية طلعت سقيرق نقوش على جدران العمر
[align=justify]
بقلم : عبد الكريم السعدي
في هذا الديوان " نقوش على جدران العمر " أطلق طلعت سقيرق صرخة مدوية وكأنه يستجمع كل قدراته وإبداعاته دفعة واحدة لتؤدي الغرض أمام كل الفضاء الأدبي والشعري ، خاصة وهو يرسم على غلاف ديوانه هذا لوحة مختلفة كذلك ليكون المشهد منسجما معا في كل جزئياته وأبعاده ، والاختلاف في هذا الأمر والمشهد شيء اعتاده طلعت سقيرق في العديد من إبداعاته وإصداراته ليرسم على مساحة الأفق أهداب روحه المعطرة بقصائده المفعمة بالعشق والنارنج والياسمين والنرجس فقد عشته طويلا وقرأته زمنا ..
فالشاعر مسكون بحبه وخلاياه تتنفس من رحيق عواطفه وتطلعاته وجمله الشعرية تقول دائما : ها أنا أحلق في كل حال نحو السحاب فلا تنظروا إلى الأرض فقط ، فالسماء عالم التطلع ولوحات الشعراء والمبدعين ، ولأنني أدرك أنّ طلعت سقيرق قلق دائما يبحث عن شيء مهم ومختلف فقد عرفته واحدا من أولئك الذين ينشدون الإبداع في كل حالاته كما يحب أن يضع بصمته لا على هامش الحياة بل على طلعتها ومبسمها ، ولئن فعل ذلك ، فهو يغرد كالعصفور والبلبل لا ليسعد نفسه ويمتعها بل ليبهج من حوله في فضائه الكوني شأن الطير في روضة الجمال ، فهو جزء منها يكملها كما تكمله ويسعدها كما تسعده ، فالقلق عند الشاعر هو إحساس بجمالية الأشياء وإعادة صياغتها بقصائده الملونة ، وهذه المرة خاصة بلون البنفسج الخفيف ، كما يقول غلاف الديوان ، فقد حوت حديقته الشعرية معظم ألوان الزهور وباقاتها المرونقة ، قرأت لوحة غلاف ديوانه الذي أهدانيه مؤخرا أكثر من التأمل فيه فوجدتني أسبح في كتابته المبهجة لأستشف أنه يشي بالأصالة والعراقة والتاريخ الأبجدي للإنسان الفلسطيني الذي بنى الحضارة في عالم سحري زمنا طويلا ، وأنجب أجيالا خلاقة مبدعة ، أبدعت فيما بعد فلسطين والعالم الذي جعلها مطمعا مستساغا لنهم الغرب ومحط أنظار الصهيونية العالمية فكانت فلسطين الذبيحة ، وكنا داخل أسياجها وخارجه وتجزأ الشعب ما بين عرب الداخل وعرب وعرب الضفة والقطاع وعرب الشتات في كل أصقاع العالم ..
تلك هي اللوحة التي وضعها شاعرنا طلعت سقيرق على غلافه منذ البداية لتفتح صفحة التاريخ مباشرة على الهم الفلسطيني والجرح الغائر الذي ينزف دما وفي هذا يقول منذ البداية في قصيدته " سنة مضت " :
أفتح في فمي طعم الحكايات التي
لا تنتهي
تتلفت العينان
أغمض ..حقل ألحان يظلل أضلعي
ويفتح الورد ..انتباه الأمكنهْ
إلى أن يقول :
خطوات من مروا .. ومن أحببتُ
من أدمنتُ
تمتدُّ الشبابيكُ ..الوجوهُ
فأنطوي حبقا يسيج كل من أحببت
من أدمنت
أعطيهم إذا شاؤوا دمي
تلك هي الحكاية ..شاعر صفق بجناحيه للوطن وللحبيبة وللجمال وللطبيعة وللحن وللفضاء فغنى بتغريده ألحان نزيف الوطن وأمسيات اشتهاء رائحة الليمون والبرتقال والبيارات الساحلية المزنرة بسياج الحنين وشقائق النعمان "الحنون" والبرقوق وخطوات الطبيعة التي ترسمها أيادي الصبح الندي على غراس واحمرار الأفق وفي هذا يقول :
سأمضي إلى بعض روحي قليلا
ونهر حزين
هنا نهدة البرتقال مساءٌ
هنا صرخة الأمنيات بكاء
ستفهم أني إذا عائد من دمي
وتفهم أني إذا هارب من فمي
حقا ينزف جرح طلق فيقوله شعرا ويتأوه حرقة لحضن الوطن فيناديه دفقا من روحه وعزفا من وجدانه ..
والآن سأدلف إلى ديوانه لأجد فيه " نقوش على جدران العمر " وحكاية قصائد مشرعة بدأت بفضاء ثم نقوش لربيع يأتي فالإهداء ثم عيد بعيد وفيه يقول :
يا أم يقتلني الأنين
وفي فمي طعم الصديد
هذا زمان شائك
يقتات من لحمي
ومن عظمي
ومن عمري
تطاردني ابتسامات
فأرسم ظلّ أفراح
هكذا هو طلعت سقيرق في حيرة دائمة وقلق وحنين وتوجع وأنين لا يستقر له حال..يبكي وطنه ، ويجد نفسه بعيدا عنه ، فيعكس هذا الحس بالألم والمرارة الدائمين رغم أنه يعيش ظروفا جيدة حياتيا ووظيفيا ولكنه الحنين إلى الوطن وبوح الوجدان بما يحمله هذا البوح ، فهو يقول :
ماذا أقول وليس لي إلا النشيد
حلقي تيبس
قد ذبحت
من الوريد
إلى الوريد
عيد بعيد
فالعيد بعيدا عن الوطن هو الحسرة والجرح النازف دائما ، وكيف تكون السعادة ما دام الفلسطيني مشردا ولا زال خارج حدود البلاد وإن كان بين إخوته من العرب وأحبابه من المتعاطفين معه والواقفين إلى جانبه في كل ملماته وعجز الواقع وطغيان الظلم الآتي من المستعمر والغاصب .
وهكذا سار الديوان تتابع فيه القصائد مفعمة بطعم الوجد ، فهي سنة مضت ، ولنا حبرنا ، وصديقتي ، وقهوة الوجد ، وتسكنين الآن في صوتي ، وصرت في الخمسين ، ريش الكلام ، وانتظار ، وتدرين أن البحر لي ، شكرا لحبك ، جئتك أسقي حقل العمر ، قمر ينام على أريكة عشقه ، ومجنونة كل الحروف وأضلعي ، البريد الالكتروني ، ونقوش كنعانية إهداء ، قيثارة الوجد ، نقوش وامضة ، إهداء ، عمري ، أغنية ، صرخة ن مصادرة ، تاج الغرام ، تعب ، الحياة ، عار أنا ، المحبة ، نبض الكلام ، نداء ، ضياع ، دائرة ، كأن خطاي ، عشق ، حدود التمني ، صعب ..
كما أن للشاعر مساهمات متنوعة في الشعر والقصة والرواية والببلوغرافيا والنقد والنصوص .. فالرحلة الأدبية والثقافية حافلة بالإنتاج والكتب والإصدارات ، فهو يعزف على أكثر من لحن أدبي ولون ثقافي ، وقد حدد هويته في هذا ، فالشاعر يمكن أن يكون شاعرا وأديبا وناقدا في آن معا وطالما أن فلسطين المغتصبة لا زالت مغتصبة وبعيدة ، فالفلسطيني قد تتفجر فيه وعنده شتى كوامن الإبداع للتعبير عن حبه لها والدفاع عنها والسعي لتحريرها بالقلم كما هو الحال بالسلاح ..
كذلك فالديوان اختلف من حيث تبويبه داخليا كما اختلف من حيث الغلاف الخارجي ..فالشاعر يحب هذا ، ويسعى للتفرد به ، حيث سار في ديوانه منذ القصيدة الأولى "فضاء" وحتى القصيدة الثانية عشرة وهي " انتظار " على شعر التفعيلة الحداثية في نفس النهج والنفس الشعري ..
ثم وضع فاصلا وهو القصيدة التالية " تدرين أن البحر لي " وهي على نظام الخليل العمودي للبحر وبطابع الجدة في الصور الشعرية وببحر خفيف رشيق متناغم ثم عاد في النسق الشعري الأول وهو شعر التفعيلة إلى ما بدأ بقصائد أخرى وهي خمس قصائد " جئتك اسقي حقل العمر " إلى " البريد الالكتروني " ..
ثم في التنويع الرابع إلى قصيدة مدورة هي " نقوش كنعانية " ففيها الإهداء وفيها قيثارة الوجد ثم تابع في الفصل الخامس من الديوان رحلته الأولى أيضا وعاد إلى شعر التفعيلة ليختم بذلك العمل الذي أهداه في كل فصل منه إلى جهة من أهله ومقربيه وقد طعّم الجزء الأخير بالتفعيلة والنص العمودي للبحر فهو يقول في " نبض الكلام :
إذا قلت شعرا يحن الكلام
وينبض داخل حرفي الهيام
أفتح في كل نقطة حبر
يماما يميل إليه اليمام
تصير القصائد جنة عشق
ويمتد من كل حسن سلام
إذا تلك القضية في شعر طلعت سقيرق تتنامى في صيرورة الانفعالات حتى تبلغ الذروة فيتدفق الشعر على سجيته دون توقف معبرا عن حس داخلي جواني هادر بجمل مفعمة بالصور الشعرية والأوزان التي تتلون حسب الدفق الشعري أيضا وبلغة شفافة وعبارات غنية بالحنين والعشق والمحبة والوجد للأهل والوطن والمحبين ..
وفي هذا يقول في حدود التمني :
أحبك فوق الذي أشتهيه ِ
وفوق الذي في الهوى أرتضيه ِ
تطيب الحياة لأنك قلبي
وانك نبضي الذي أنت فيه
وإن بقيت لي من كلمة هنا فهي أن التعابير والجمل والتراكيب والصور تترادف إثر بعضها كما اللغة التي يكتب بها طلعت سقيرق فهو يتعامل مع اللون الشعري حسب الحالة ويكتب في أيها دون تحيز لأي منها وذاك هو الجمال ..
• نشرت في مجلة " الثقافة الشهرية " عدد آب 2008 ..
[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|