الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله
وآله الطيبين وكافة المرسلين وعباده الصالحين
يرى ابن عربي أن "المادة" التي احتلت موضعها عند المستوى الأدنى من البنيان التراتبي الهرمي للوجود، المتدرِّج على نحو متصل، وتشكَّلتْ من العناصر الأولية ليست "مادية" بالمعنى الحرفي للكلمة إذ هي روحية في جوهرها، حتى لو اتخذت شكلاً، أو حتى لو كانت تحتل مستوى أونطولوجيًّا أدنى، يُحتمَل أن يكون أدنى مراتب الوجود ومع ذلك، تتجلَّى الحقيقة الإلهية في هذه المادة ، وبهذا الصدد، يقول ابن عربي ما مفاده: كلُّ شيء في هذا العالم حي ، كلُّ شيء ينبض بالحياة وتحييه "روح" والعالم كلُّه مشبع بالحياة مادام انعكاسًا للوعي الإلهي
ويذكرابن عربي ذلك في كتابه الفتوحات المكية كدليل على أن جميع ما في الكون حي حيث يقول
فاعلم أن في الخبز والماء، وجميع المطاعم والمشارب، والملابس، والمواكب والمجالس، والزهر والثمر، أرواحًا لطيفة غريبة، فيها استجابة مودعة لما يُراد منها هي سرُّ حياتها؛ وفيها تجلٍّ من حبِّ الله لعبده وعلوِّ منزلته، حتى سخَّر له ما فيه السعادة والعلم والبقاء ، وتلك الأرواح أمانة عند تلك الأشياء، محبوسة في تلك الصور، تؤدِّيها إلى هذه الروح الإنسانية التي قُدِّرَت لها
ولما تطورت العلوم في عصرنا الحديث تبينت هذه الحقائق حيث تبين أن أسس هذا الخلق المحكم تقوم على أجسام مخلوقة متناهية الصغر لا سمك لها وتعتبر الوحدة البنائية الأساسية لكل العناصر التي تآلفت في محيطها واكتسبت نسب كتلتها لتكون
آية من آيات الله المودعات بحكمته وألطافه وعلمه المكين ، وكلما تعمق العلم في رصد جزئيات ما دون الذرة تراءى له تلك القوى المهيمنة المحيطة والمنيعة التي تحكمها وأبعد من ذلك ، فقد يظن المرء المتقصي للحقيقة في أول وهلة أن كل ما في نظرية الكم على ما يرام وعادي ويفسرها المنطق العقلي الرياضي كباقي العلوم وأن دوائر دماغه متصلة فيما يقرأه عن أساسيات علوم ميكانيكا
الكم ولكن عندما يغوص في تعقيدات المعادلات ويرى أمامه تطبيقها العملي في الحياة الحقيقية فإنه سيُذهل ويصدم فهذا العالم هو ليس ما يرى بالعين المجردة لكنه أمر بعيد عن فهمنا ، لكن عمق هذا العلم يفسر
أن الجسيمات تشكل مايشبه الوحدة العضوية الواحدة ، وأن الكون برمته ليس الا كيانا عضويا متصلا والكون يبدو مسكونا بعدد لانهائي من وحدات وعي صغيرة ، وغير مفكرة ومأمورة ، ومسؤولة عن السير التفصيلي لعمليات الكون ، وهذا غير خاف لما نقرأ قوله تعالى في محكم كتابه العزيز (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) الآية
لقد أظهرت نظرية الكم أن الجسيمات الأولية لاتمتلك وجودا حقيقيا كحبات الرمل أو الملح ، بل هي تحاول ان تكون موجودة ، ومقدار ميلها الى الوجود يمكن حسابه بواسطة الاحتمالات ونظرية المصفوفات ، ان الوحدات الأساسية المكونة للمادة ليست لبنات مادية كالجبن مثلا ، بل هي كموم من موجود لاندري كنهه ، وأحداث احتمالية وعلاقات احتمالية تتحقق عندما نجري عليها القياس والرصد
فكلما توغلنا في أعماق المادة ، تقابلنا الطبيعة بنوع من الوجود تغيب في مواجهته فكرة المكونات الأساسية ، ليحل محلها فكرة النسيج الموحد الذي تشكله العلاقات لا الوحدات المادية الصغرى ، ومع ذلك فان فيزياء الكم بقيت تتعامل مع الجسيمات الأولية باعتبارها أشياء و موضوعات وذلك لسببين : الأول هو استمرار نوع من الفكر الفيزيائي التقليدي في الفيزياء الحديثة، والثاني هو عدم وجود خيار آخر في الوقت الحاضر أمام الفيزياء ، لأن لغاتنا التقليدية ومفاهيمنا السائدة ليست في حال يسمح بابتكار مصطلحات جديدة تستوعب الرؤية الجديدة للكون ، والحقيقة في جمالية هذا العلم أنها ألغت مفهوم العالم الذي يقبع وراء عدسة المراقب المستريح
خلف أدوات رصده ، وذلك أن عملية القياس تغير من حالة الالكترون الأصلية ، ولن يعود الحال الى ماكان عليه قبل القياس، فاذا أردنا أن نصف حقيقة ماحدث ، وجب علينا ان نتجاوز مفهوم المراقب ، ونستبدله بالمفهوم الجديد وهو (المشارك ) ، ذلك أن الكون هو كون تشاركي لا انفصال فيه ، ولا يمكن أن نفصمه عن حقيقته