يوميات رباب
يوميات رباب
(هدية إلى تلميذتي السابقة رباب)
رباب ، وهي تتجه إلى مقر عملها الكائن بشارع الجيش الملكي ، تخطو برشاقة وهدوء . تلاحقها بعض النظرات وهي تغادر حي "سيدي الصعيدي" حيث تقطن مع جدتها التي لا تفارقها إلا حين تحن للحظات القرب من والديها وأسرتها في حي آخر . كلمات الغزل التي تنهال عليها من بعض المارين لا تثيرها وتواصل سيرها بسكينة ووقار وقد أكسبتها قصة شعرها أناقة وجمالا نادرين . وحين تصل إلى العيادة حيث تعمل كمساعدة لأحد الدكاترة ، ترتدي معطفها الأبيض الناصع فيزيدها جمالا وتنهمك في عملها بكل جوارحها . عمل وجدت فيه متنفسا وملاذا أزاح عنها ذلك الإحساس بالملل الذي كانت تشعر به منذ أخفقت في اجتياز امتحان الباكالوريا ، ثم فشل تجربة عاطفية كادت تتوج بالزواج .
في ما عدا ذلك تعيش رباب حياة هادئة وسط أسرة تغمرها بالحب وأب يغدق عليها من حنانه ما يجعلها تنظر برضا إلى واقعها . فتجربتها تركت فيها أثرا إيجابيا وخرجت منها اكثر قوة وصلابة . بل صارت أكثر جرأة على اتخاذ أي قرار تراه صائبا فتنفذه دون تردد أو اعتبار لمن سينتقد تصرفها مادام ذلك يريحها . وتشكر الله على أنها وضعت حدا لتلك المهزلة كما تسميها دائما قبل فوات الأوان بعد أن اكتشفت أشياء كانت ستنغص عليها حياتها فيما لو تم الزواج .
رباب تملك ذلك الجمال الملائكي الهادئ ، فهي متوسطة القامة ، ممتلئة الجسد ، ناعمة البشرة مع ميل لحمرة خفيفة . في نظرات عينيها النجلاوين عمق وتأمل ، بينما تنم شفتاها الممتلئتين عن تصميم وإرادة قويين . ومن أجمل ما يغري الناظر إليها بسمتها التي جذبت إليها العديد من المعجبين بل والعشاق الذين كبتوا رغبتهم في الفوز بها إما لعدم كفاءتهم أو لخشيتهم من رفضها وفي ذلك إهدار لكرامتهم .
لها أيضا تلك الروح العذبة التي يطبعها الهدوء في كل شيء . حتى وهي تتلقى الصدمات ، فإنها تنطوي على نفسها وتلتزم الصمت . لكن هناك ابنة عمها عفراء الصغيرة ذات العينين الزرقاوين ، التي تملأعليها دنياها وتغزو قلبها . فهي دائما برفقتها حين تزور أسرتها بـ"باب النوادر" ، وتنسى كل شيء حين تبدأ في مداعبتها ومشاركنها لهوها الصبياني البريء ، وهي في البال أيضا حين تذهب للعمل لتقضي فيه جل النهار. عفراء صارت عالمها الذي تلجأ إليه كلما أحست برغبتها في الخلو إلى نفسها والاستمتاع بوقتها بعيدا عن أي لغو وجدال . فتسترجع طفولتها وتعيشها بملء كيانها .
رباب تحب البحر والسفر وتفضل قضاء بعض الأوقات وحيدة تتأمل ما مضى من حياتها وتفكر في حاضرها فلا تجد سوى الفرح والسعادة رغم ما عاشته أحيانا من أحزان وصدمات سرعان ما كانت تمحى أثارها فتنسى كل شيء سوى أنها تعيش من أجل الفرح . تناجي نفسها كثيرا وهي تتأمل البحر. بل وتخاطبه مرارا وتشكو له قلقها وما تلاقيه في العمل من إرهاق وضغوط ومعاناة من جهل البعض ومن عقلية البعض الآخر .
كثيرا ما تبتسم للبحر في دلال وهي جالسة قبالته ترتشف فنجان الشاي تحت المظلة التي نصبت على رمال الشاطئ الفسيح ، فتحس انه يغازلها وأمواجه تتكسر على الشاطئ . بل وترى في هيجانه غيرة عليها ، فتبتسم من جديد وتسرح بنظرها إلى الأفق . ويلذ لها ان تلامس الرمال بقدمها فتحس بدغدغة تسري في جسدها وتنعشها قبل ان تنهض وتتمشى طويلا على الكورنيش مستمتعة بصيحات النوارس دون أن تحيد بنظرها عن البحر وكأنها تودعه وتضرب موعدا آخر معه .
من يعرف رباب ويراها وهي في طريقها إلى العمل أو في إيابها ، سوف يكتشف أنها لم تفقد تلك اللمسة الطفولية البريئة على محياها . وسيسهل عليه التعرف عليها حتى ولو لم يكن رآها لمدة طويلة . فقد احتفظت بمعالم صباها وبتقاسيم وجهها الجميل حتى صار يضرب بها المثل في الحسن والذوق الرفيع سواء في الملبس أو في أثاث غرفتها .
حين تخلو إلى نفسها ، تجد راحة في البوح لمدرسها القديم وتجد لديه أذنا صاغية وصدرا رحبا فلا تجد حرجا في الإفضاء إليه بكل ما يضايقها أحيانا وتنسى نفسها وهي تحكي له عن كل ما لاقته في يومها بل وتسرد له أشياء من ماضيها بكل تلقائية . ثم تطفئ النور متأملة الظلمة فيسرح بها الخيال بعيدا وتداعبها الأحلام . وأحيانا تفتح نافذتها لتتأمل الحي الغارق في سباته وتنظر مليا إلى السماء المرصعة بالنجوم منتعشة بهبة ريح شرقية تداعب خصلات شعرها . وتمكث هناك الى أن تحس برعشة تسري في أوصالها ، فتغلق نافذتها وتستلقي على سريرها مستسلمة لنوم هادئ ، في انتظار يوم جديد .
يبزغ النهار فتستيقظ رباب . تتمطط متثائبة وتنظر الى النافذة وقد سطع منها نور بهيج ، فتبتسم وتنهض بحيوية ونشاط لتعد فطورها وتنطلق الى عملها بعد ن تحضن جدتها وتطبع على يدها وجبينها قبلة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|