حشرات و وشاة
-- ساد الصمت فجأة وسكتنا عن الكلام، لأن ظل رجل طويل القامة،
قد ظهر على قماش جدار الخيمة، واتجهت أعيننا نحو الباب
مباشرة: انه الأستاذ "عبد الله ". لقد دخل وهو حاني الظهر
حتى لا يرتطم وجهه بأي عائق ، ثم انتصب ونظر حوله
كالباحث عن شيء نسيه ،
على وجهه ارتسمت بعض خطوط الزمن الذي زادها بروزا ذلك الضوء
المنبعث كالشعاع حوله ، ونحن ، ليس لنا تركيز إلا على تلك القسمات ،
لنتعرف على مزاجه في تلك اللحظة . بعض التلامذة ، أصبحوا متخصصين
في قراءة خارطة وجهه ، والبعض يستفسر من البعض الآخر ،
فالمسألة مهمة للجميع ، فمن تلك الصورة نعرف إن كان يومنا سيبدأ
بيسر أو العكس .. وفي الغالب ما كانت تنبئنا بنهار عسير ..!
نقف له بأحترام شديد ، نردد بعض الجمل التي نكررها كل يوم ..
وقبل أن نُكمل يرفع يده ويحركها لترافق أمره لنا بالجلوس .. قطب حاجباه وحرك أرنبة أنفه صعودا ونزولا وأخذ
يتنشق الهواء - هواء الغرفة - بتقطع مستمر ونظر نحونا نظرة احتقار ثم أخرج من جيبه المنديل
ووضعه على وجهه وكأننا به يبكي ..!
:
- هل من غياب..؟ بعصبية يسأل .
- نعم استاذ .. نعم أستاذ : - " مفلح وحسن ويسين ،
رأيناهم يهربون بإتجاه البساتين .. أما مدارس وخليل .. و ..... !
- اخرس يا ولد أنت وياه !
انأ سألت واحد ، بتردوا عشرة .. العمى يعميكم ..! "
لم يكن ليدعنا نكمل ، ولا يريد منا الإجابة بالرغم من سؤاله
المتكرر هذا كل يوم .
كان و كأنه يقوم باختبارنا فيقع أكثر من نصف الصف في شِراكه.
- " انا مش كل يوم بقول متفسدوش على بعضكم البعض ،
يخرب بيتكم ما بتتعلموا ، ولكم عيب .. عييييييييييب يا بقر ،
الوشاية عيب . الوشاية بتعمل منكم بالمستقبل جواسيس ... بتفهموا يعني إيش جواسيس ..؟!
العمي يعميكم ,, التكرار بعلم الحمار ، لكنه افهم منكم ."
كانت سعادتنا لا توصف حين يصفنا بتلك الأوصاف لأنه كان يُتبع إهاناته الساخنة
بابتسامة باردة تُفرحنا .. فهو على الرغم من مظهره الخشن ،
وعصبيته الزائدة ،ألا انه كان يملك قلبا رقيقا كنا نستشعره .
استدار نحو اللوح الخشبي الصغير المرتكز على " سيبة " من ثلاثة أرجل
وبيده طبشور بيضاء ، وأمسك باليد الأخرى الجانب الأعلى من اللوح لأن أركانه
ليست ثابتة ولا يستطيع الضغط على الطبشور ولو فعل .. تبدو كتابته في بعض الأحيان باهتة أو
يهتز اللوح كلما كتب عليه حرفا وضغط .. فيرتفع منسوب ضغطه وعصبيته وتوترنا ..
وبسرعة المسعف يندفع بعض المتبرعين منا لمسك أرجل اللوح ليثبت في الأرض ولننال منه الرضا ..!
- " افتحوا الكتب " .
ثم كتب على اللوح جملة تفيد أننا سنكمل الدرس السادس ،
بعض التلاميذ لم ينصاعوا للأمر المكتوب - سامحه الله – فهذا البعض كان لا يرى ما كُتب بالأصل
فالغيوم كثيفة ولا من إضاءة داخل تلك الخيمة .. قطرها لا يتجاوز الأربعة أمتار وعددنا
خمس وخمسون تلميذا غير الغياب ..!
:
نبدأ بالتململ من ضيق المكان ، فحرارته ارتفعت من حرارتنا .
- " اسكت يا ولد ، اسكت يا كلب أنت وإياه ! "
ثم يتمتم بكلام لا نفهمه .
- " نزّل ايدك عن راسك ولك انت وهي ، ويكفيكم هرش !
تغسلوا.. تحمموا ... العمى بعيونكم وعيون اللي خلفوكم .. ولْكُم مفيش ميّ تتشحروا فيها ؟
وَلك انت ... لا مش انت .. انت يا زفت يا مفيد ، خلي امك تنظفلك اذانك ؛ شو فيهم عصيد ؟
وانت وِلك يا بنت .. نزلي إيدك عن راسك وخلي أمك تنضفلك إياه بالكاز ! "
( بالرغم من ان خيمة الصف كانت تفوح برائحته يوميا !
فاطمة تتباكى ، وبصوت متقطع تقول :
- " شعري يا أستاذ نظيف .. أمي بِتْفَليني كل يوم
وما شافت براسي لا قمله ولا سيبانه "
تلك الحشرات المنتشرة في كل الأمكنة والتي كانت تأبى إلا أن تتسرب
إلى رؤوسنا نحن الصبيان ، بالرغم من حلاقة شعرنا على الزيرو
فجميع الأولاد في مدرستنا كانوا كلهم قُرْعان !
( في يوم ـ أراد أبي التخلص من تلك الحشرات فحرق جميع ثقوب جدران
غرفتنا الوحيدة " ببابور الكاز " ثقبا ثقبا ،حتى كاد أن يحرق البيت ويحترق ..
ومع ذلك ، لم يستطيع القضاء عليها فهي منتشرة في معظم أجسام الناس فأين يهربون ..! .
ثم فكر يوما بتغيير مسكننا إلى منزل آخر ، ولكننا واجهنا نفس المشكلة ،
وغاب عن ذهنه أو انه لم يكن يعلم بأن الحشرات كانت تعشش
بفرشنا وألبستنا وتحت ثنايا جلودنا وتنتقل معنا في كل ترحال)
:
احمد يصرخ : - " أستاذ، أستاذ " بَقّه " على كتف فلاح "
رفع فلاح يده محتجا وقال " : خليل وضعها على قميصي والله العظيم يا أستاذ "
- " ولكم يلعن أبو اللي بعثكم للمدرسة ، يلعن أبو " هالّلجئة " اللي خلتني أشوف وجوهكم النجسة ،
أسا بدعسكم بنعل كندرتي إهدولكم شوي " ..!
::
يتساقط المطر بغزارة في تلك الحصة من الدرس ، اللحظة المنتظرة التي تجعلنا " نفلت "
بالحديث مع بعضنا البعض ، فصوت زخاته الكثيفة
فوق الخيمة كان بالنسبة لنا من أكبر الأصدقاء في تلك الحشرة
و هي بالطبع من اكبر الأعداء لمعلمنا ... فهو مضطر لرفع صوته
حد الصراخ ليرتفع فوق أصواتنا وأصوات المطر لنسمعه ويسمعنا ؛ الأمر
الذي ما علّمنا ما معنى الحديث بصوت هادئ ،
فكبرنا
وصرنا
حتى إن غازلنا نساءنا في ساعة غرام ، تسمعنا كل الجيران.