ليلة العروج إلى المنافي
- لا ، ليس حلما يا صديقي، انها حقيقة ولن انسى تلك الليلة ما حييت .
فمن باستطاعته ان يمحو مأساة مستمرة ما يربو على الثمانين عاما ؟!
من باستطاعته نسيان أن بشرا اقتلعوا بشرا ثم يتنكرون ولا يعترفون أنهم قاموا باقتلاعي،
أهلي عشيرتي وكل شعبي من الجذور، ثم صدقهم العالم بأنهم كانوا هم الضحية هل تتصور ذلك ؟!
- اسمع أيها العزيز واعذرني إن قلت لك بأن الناس قد سأمت من هذه المعزوفة ،
البعض صار حينما يسمع اسم فلسطين يُقفل أذناه والبعض يستمع اليك بملل ، حدثنا عن شيء آخر إن استطعت .. !
ثم ، ولم الحزن يا أخي الطيب وعينيك تريان أن نفس الشعب الواحد يقوم بقتل النصف الثاني منه
و يُهجّر نصفه الآخر؛ وانت ترى أيضا أن عدد اللاجئين من بعض الدول العربية وغير العربية
أصبح أضعافا مضاعفة عن عدد الفلسطينيين الذين هجرهم الصهاينة !"
- وأنت أيضا اعذرني يا سيدي الكريم !
فالمسألة ليست بهذا التبسيط وتحتاج إلى عقل لا يسكن فيه الغباء !
إن هذا هو تسطيح للأمور ويراد به الباطل ؛ المسألة أعمق من مسألة أعداد ؛ إن الأرض
هنا يا سيدي قد سُلبت ، والهوية على وشك الضياع ! اللبناني تهجر ثم عاد إلى أرضه ،
والعراقي والسوري واليمني سيعودون إلى أرضهم وبيوتهم عندما يتوقف الصراع مهما
عظُم ومهما طال؛ أما أنا ! أنا في الانتظار منذ سبعين عاما، حقي قد أُكل سيدي ، أرضي ما
عادت أرضي سيدي ، بل إن العودة إلى مسقط رأسي صار حلما، وجثتي لن يُصرح لها لتدفن
في أرض الأجداد كما أتمنى .إن الذين يقمون بعمل مقارنات هنا أو هناك، إنما هم يُفرحون العدو
الذي عمل جاهدا وما زال حتى يُلغى " حقي في العودة " فسبع وستون عاما في حياة الانسان،
هي كل سنوات عمره تقريبا ، وما زلت اذكر تلك الليلة منذ ذلك التاريخ ولم أتوقف عن التفكير فيها كل يوم وكل ليلة!
- " إذن ، من الجيد استفزازك هنا ، فأنا لا أحتمل رتابة السرد بلا معان، تفضل حدثنا بما جرى في تلك الليلة ."
- رغم الخوف الذي كنت أشعر به يا صديقي ، ورغم الحيرة التي كنت اراها في عيون أمي
ورغم أصوات الرصاص والقنابل التي كانت تُسمع من بعيد، ألا أن النعاس غالبني ونمت .ولكن
لم أعرف ما الذي جرى في ساعات نومي ، لم أعرف أن خالتي أخت أمي وهي في نفس الوقت امرأة
عمي قد مات زوجها في خلال تلك الساعات . لم أعرف أن رصاصة قاتلة اخترقت جبهته وهو يقاتل
دفاعا عن مدينته ووطنه . لم أعرف أن خالتي حينما عرفت بالخبر أصرت على الخروج ومعها والدتي
وذهبتا معا تحت رمي الرصاص والقذائف لرؤية جثة " محمود " . لم أعرف ليلتها أن خالتي وأمي
كانتا تهرولان بعكس اتجاه معظم الناس ؛ هنّ يتجهن شرقا والناس تتجه غربا !
شاهدّن جثة محمود ملقاة على الأرض مع اثنان من رفاقه .. ولكن.. كانت الناس أقوى في دفعهن
نحو الغرب لئلا يصل اليهود إلى بيتنا ويقومون بقتل من فيه فاليهود يعرفون عناد جدي وتاريخه !
لم أعرف إلا أن أمي كانت تشهق برجاء لأصحو من نومي . لم أعرف ما الذي جرى إلا أن معصم يدي
كان في قبضة ملزمة، هي يد أمي. وفي يدها الثانية تحمل أختي الأصغر رغم حملها في سابع شهر .
كنا من بين المئات من الأطفال والنساء والعُجّز في حال من الذعر والفوضى . الجميع ودونما إخبار،
ودونما تخطيط ، يتجهون نحو ميناء المدينة ، فالطريق إليها كما هو " مُدبّر " كانت سالكة .
ويبدو أن المراكب كانت أيضا بالانتظار !
اصوات صراخ تلاحقنا عبر مكبرات الصوت بالعبرية والعربية وتختلط بأزيز الرصاص وأصوات الانفجارات :
" ستموتون جميعا إن لم يستسلم المخربون ...!!"
كلمات رددها جنود العدو عبر مكبرات الصوت وهم يقتحمون الأحياء الغربية القديمة لحيفا فأين المفر ..؟!
اطبقوا على المدينة من كل جانب ما عدا البحر والسماسرة ! بعض الناس قامت بالرحيل
قبل يوم عبر الطرق البرية ، لكن اليهود احتلوا كل المنافذ ما عدا البحر !
في تلك الليلة من نيسان كنت قد تجاوزت من العمر عشرة أيام بعد أربع من السنوات من العام 1948
فكيف أنسى تلك الليلة .. كنا والأطفال في مثل عمري نصرخ ونصرخ ليس خوفا من اصوات الرصاص
او القذائف .. ولا خوفا من تلك الآتية عبر المكبرات ولا من عتمة الأزقة والطرقات .. انما كان خوفنا
ما عكسته علينا تصرفات الأهل وخوف الكبار من الرجال والنساء على الأطفال الذين لا يحسبون
مخاطر الحروب ولا يهمهم إن وقفوا امام مجنزرة او دبابة
ولكنهم يموتون رعبا عندما يشاهدون الكبار من اهلهم في حالة رعب فيخافوا !"
- اعذرني ايها العزيز إن استوقفتك قليلا .. لماذا كان الهروب - عذرا – بهذا الشكل الجماعي والفجائي ؟! "
- كان يجب عليك أن تسأل ، الحق معك في السؤال ، باختصار أقول لك وبلا فلسفة إن مجزرة " دير ياسين"
وقعت قبل ايام معدودة من تلك الليلة. وان صدى صوت تلك المذبحة التي انتقلت اخبارها بين الناس
كالنار في الهشيم قد فعلت فعلها ، و اليهود قد هددوا بتكرار "المجزرة " التي كانت اخبارها قد بثت
الرعب بين ابناء المدينة وجعلتهم في سباق مع الزمن ليهربوا منها ، والأدهى يا عزيزي، إنا وعن غير
قصد قد ساهمنا بتضخيم الجريمة في بعض وسائل الإعلام وصورت الأجنة على رؤوس الحراب فخاف
أهل حيفا المطوقين أصلا، والمجردين من السلاح أصلا ، إلا قلّة من الأبطال الذين حازوا على بنادق
وبعض الطلقات قاوموا واستشهد معظمهم .
في تلك الليلة كانت جميع الأزقة مكتظة تعبرها قوافل الهاربين باتجاه خط ، خط الذهاب ..
أما الإياب فهو مقفل منذ ذلك التاريخ وما زال!
يروي القصة كثيرون ، لكنهم لم يشاهدوها ، لم يعيشوا تفاصيلها كما رأيتها ، لم يرويها لي راوي ..
لقد كانت ذاكرتي هي كتاب التسجيل ، وكان يضاف إليه في كل يوم صفحات جديدة نعيش مآسيها حية
يوما بعد يوم وتكبر معها حكاياتنا كل يوم ، لم اعرف فيها أي معنى للطفولة في أي يوم ،
حيث يصبح الطفل راويا للأحداث ويرويها قبل الرواة .
ما تبقى من تلك الليلة وضعتنا على ظهر مركب صغير ووجدت نفسي مستلقيا في حضن رجل عجوز غريب
ووجهي كان باتجاه السماء فشاهدت النجوم لأول مرة ترقص ،وحسبت ان الرجل يمرجحني ولم اكن اعلم
ان المركب كان يتمايل وهو يمخر عباب البحر ببطيء فوق الأمواج ، فشعرت بالسلام ، ولكن ..
لم أكن أدري لماذا كلما ابتعدنا عن حيفا يزداد أنين الناس ونواح خالتي في حضن أمي فقلت للرجل : هل انتهت الحرب ؟
قال :انتهت بالنسبة لي . لكنها بدأت حربك الآن يا ولدي نم . أغمضت عيوني ونمت في عتمة ذلك الليل البهيم .
عفوا ,,, لايمكنك مشاهده الروابط لانك غير مسجل لدينا
[ للتسجيل اضغط هنا ] مدينة حيفا