[align=justify]فجأةً رأيتُه يقفُ أمامي، بطوله الفارع، وقد احتقن وجهه واحمَرَّ، كعادته، كلَّما غَضِب.. سررتُ لمرآه، لكنَّني انزعجتُ لرؤيتي إيَّاه غاضباً، بعد كلِّ تلك السنين التي غابها عنِّي.. ولذلك، سألتُه:
- ما بك يا طلعت؟ لِمَ أنتَ غاضبٌ إلى هذه الدرجة؟
وكأنَّ سؤالي قد صبَّ الزيت على ناره، فصاح بي مُتعجِّباً مُستنكِراً:
- وكيف لا أغضب، وأنا أرى ما يُغضِب حتى الحجر ويُفَتِّتُ قلبه؟!
- ماذا تقصد، وماذا رأيتَ، حتى جئتني تغلي غضباً؟
أشاح عني بوجهه، ثم أولاني ظهره، واتجه إلى النافذة ففتحها، ووقف مُرسلاً بصره نحو السماء.. تنهَّد بحرقة، ثم أعاد عليَّ سؤالَه الاستنكاري:
- تسألني ماذا رأيت؟! حسناً...، اسمع إذاً ماذا رأيت، حتى صرتُ إلى حالة الغضب هذه التي تراني بها...
وشيئاً فشيئاً، بدأ يتهدَّجُ صوتُه مُنشداً:[/align]
[align=justify]جثثٌ وأشلاءٌ .. ودمْ
موتٌ .. ورائحةٌ العدمْ
نتفٌ حطامْ ..
وضفيرة سمراء .. أو سمراء .. أو ..
مخلوعة من جذرها ..
ثديٌ عليه أصابع الطفل المدمّى
ما زال يعتصر الحليبْ ..
وفمٌ تناثرَ
حلمة ٌمقصوصة ٌ..
حبلى تشظى بطنُها
رأسٌ تدحرجَ خارجاً من حلمهِ
وجه ٌتوزّعَ
طفلةٌ
جسدٌ على الحجر الأخيرْ
حجرٌ على طول الضميرْ[/align]
[align=justify]قال ذلك، ثم صمتَ، ثم التفتَ إليَّ قائلاً:
- هذا ما رأيتُه، وأنا قادمٌ إليكم، فأغضبني إلى هذا الحدّ..
ثم أردفَ:
- ألا تعتقد أنَّ هذا الذي رأيتُه كافٍ لإثارة الجنون وليس الغضب فحسب؟
- وأين رأيتَ كلَّ ما ذكرت؟
ثم تابعتُ سؤالي مُستدركاً، ولكن بصوت خافت، بدا له وكأنَّني أُكلِّم نفسي، على الرغم من أنَّني أُوجِّهه إليه:
- أيها الإنسان الطيب، أتراكَ تعيش مأساتنا معنا، ونحن الذين ظنناك قد غادرتَنا، وارتحتَ من همومنا إلى الأبد؟
وبدلاً من أن يُجيبني على سؤالي هذا، نظرَ إليَّ نظرةَ عتاب أحرجتني جداً، وكأنه أراد أن يقول لي من خلالها:
- وهل تركتكم أصلاً حتى أعود إليكم؟! نعم أنا ما زلتُ معكم.. لكنِّي أُضطر أحياناً إلى الغياب عنكم لفترة قصيرة، ما ألبث أن أعود بعدها.. وفي عودتي الأخيرة هذه، قمتُ بجولتي التفقدية لأحوالكم والوقوف على ما آلت إليه، فإذا بي أكاد أُجَن..
وبسذاجة سألتُه:
- وهل قمتَ بها وحدك؟
- لا.. أبداً.. بل مع أصدقاء وأخوة لي، لا تعرفهم يا توفيق.. إنَّهم أصدقاء جُدُد تَعَرَّفتُ عليهم، بعد سفري الذي أبعدني عنكم، قبل خمس سنين.. إنَّهم طيبون جداً، ولذلك ذرفوا الكثير من الدمع، حين رأوا ما رأوا، أثناء جولتهم معي، في كلِّ تلك الأمكنة..
- وماذا رأيتم، وأين؟
ومرةً أخرى، رأيتُه يُولِيني ظهره، ثم يقول: [/align]
لما اقتربنا لم نجد إلاّ براكيناً وسكيناً وأقنعةً
ونارْ ..
بينَ الرصاصةِ والرصاصةِ والنحيبْ
للجرحِ قافيةُ الضحايا ..
والضحايا للمرايا ..
تمتدّ في الأيام فينا
حين السكاكينُ انتشتْ
واللحم يقطر خصلةً وفماً وشيئاً من دوارْ
[align=justify]وتابعَ:
- ثم ذهبنا لمقابلة الصغار ومعلمهم، فرأيناه قد جمعهم مع مَن بقي من أهاليهم، وراح يحاورهم..
- وماذا كان يقول لهم؟
فأجابني:[/align]
قال المعلم للصغارْ :
ماتت على الشفةِ الحكايا ..
قال الصغار :
ما جاء أحمد دافئاً من ليلهِ
ماتت على الخيلِ الخيولْ
لم يسمعِ الولدُ الصهيلْ
قال المعلم للكبار:
ما عاد للخيّال غير العرض في سوق البطالهْ
ما جاء أحمدُ
في منافيهِ اختنقْ
وعلى يديهِ من الرصيفِ إلى الرصيفْ
خيلٌ .. رجالٌ من ورقْ
ناداهمُ ..
دهمتهُ ألوانُ الغرقْ
قال الكبارْ :
خرقتهُ ألف رصاصةٍ في الصدر ما ماتَ
الصغيرْ ..
شطرتهُ ألفُ شظيّةٍ .. وقفَ الصغيرْ ..
ناداهمُ ..
صفّوا الكؤوسَ على الكؤوسِ على
الجسدْ …
مات الولدْ ..
قال المعلم للمعلم : حين غابْ
بكتِ الخيولُ على الخيولِ .. وما أجابْ ..
[align=justify]ثم صمتَ طلعت دقيقةً أو دقيقتين، ريثما مسح دموعاً انهمرت من عينيه، ثم تابع يُخبرني أنَّ أُمَّ الصغير أحمد، سألَت صديقه أن يُخبرها كيف حدث لابنها ما حدث، لأنَّها وقتَ وقوع الحادثة، لم تكن موجودةً بقربه، فأجابها صديقُه الصغير مًوضِحاً:[/align]
يا أم وارتطمَ القمرْ
بملامح الطفلِ الموزّع جثّةً
كانتْ على خصلاتهِ قطراتُ ماءْ
جفتْ وغطتها الدماءْ ..
سقط القمرْ ..
لم يكملِ الطفلُ القراءهْ
لم يكملِ الطفلُ الطعامْ
هو جثةٌ مشطورة بين الحطامْ
سقطَ القمرْ ..
يا أمُّ وانتشرَ الظلامْ
[align=justify]كنتُ، وهو يروي لي ما رأى بأسلوبه الشعري، محتوياً رأسي بين كفيّ، ألماً وحزناً وغضباً، بعدما أثار شعره شجوني كلَّها دفعة واحدة.. ولذلك، حين طال صمتُه بعد أن انتهى من سرد ما جرى لأحمد على لسان صديقه الصغير، رفعتُ رأسي مستطلعاً سببَ صمته، فإذا بي أُفاجأ بأنَّه قد رحلَ من جديد... عندها، أحسستُ بدموعي تنهمر غزيرةً من عينيّ، ولم أكن أدري السبب الحقيقي لانهمارها، أهو حزني وانفعالي برواية طلعت لما شاهده ورواه لي شعراً، أم حزني لرحيله مبتعداً عن عالمنا من جديد؟![/align]
الأبيات من قصيدته (جسد على الحجر الأخير)، المنشورة في (نور الأدب) بتاريخ 2010/9/16