[align=center][table1="width:95%;background-color:orange;"][cell="filter:;"][align=center]
( صور .. باللون الأحمر ) " المجموعة الثالثة "
( الصورة الأولى )
كان هذا اليوم هو أسعد يوم في حياته على الإطلاق .. ففي هذا اليوم سوف تتحقق بعضاً من أمانيه وأحلام يقظته .. اليوم ستضع زوجته مولودها الأول .. ففي الصباح الباكر .. كان قد أوصلها بنفسه للمستشفى لوضع المولودة ..
كان يترقب اللحظات .. يعد الساعات .. الدقائق والثواني .. ليرى ابنته المولودة .. البكر .. ليكحل عينيه بمرآها .. أعد لها كل ما تحتاجه .. جهز لها السرير .. الألعاب .. الملابس .. وكل ما يلزم لمثل هذه الأمور .
هذه أمنية .. أما الأخرى .. فكانت مناسبة تخرجه من الدورة التي التحق بها .. والتي سيقام لها حفل عظيم للخريجين من أقرانه .. توزع عليهم فيها الشهادات ... الرتب ... والأوسمة .
كانت هذه الأمنية هي الأمنية الأخرى التي كان يحلم بها طويلاً .. ينتظر اللحظة التي يضع فيها الشهادة بيده .. ويضع النجوم البراقة اللامعة على كتفه .
في خضم الاستعداد للاحتفال المهيب .. برقت السماء بوميض غريب .. عربدت الأجواء عربدة مخيفة .. فما كان من الأرض إلا أن ردت عليها بصخب جهنم .. ونيران الجحيم .
تناثرت الجثث .. الأشلاء .. الدماء .. في كل الأرجاء .. لم يدر ما الذي حدث ؟؟!! لم يستوعب الأمر .. كان يحلم بالأشياء .. بتحقيق الأماني .. فإذا بها تتلاشى تماماً كما تلاشت الجثث والأشلاء المتناثرة .. ومع صوت الانفجارات الرهيبة المتتالية على المكان .. وفي كل مكان .. كانت آلام المخاض تتوالى على الزوجة بشكل عنيف ..
وسط الجثث المتفحمة المتراصة .. والأشلاء الآدمية المتناثرة .. كانت تدور بعينيها هنا وهناك .. تتحرك في كل الأرجاء .. تحمل بين يديها الطفلة الوليدة .. تتشاركان الصراخ والبكاء ..
أخيراً ... وجدت جثته بين الجثث المتراصة في ردهات المستشفى الكبير .. وسط ضجيج وصراخ القوم من حولها في كل ناحية .. اقتربت منه .. كفت عن الصراخ ... نظرت نحوه بعيون مرهقة .. وجدته جثة هامدة بلا حراك .. محترقة .. هتفت به بصوت متحشرج تخنقه العبرات المتحجرة في المآقي :
- ها هي .. الطفلة .. الوليدة... أسميناها .. أمل ..
فتح عينيه بصعوبة .. طيف ابتسامة على محياه المحترق .. مد يده ببطء ناحية الطفلة الوليدة .. أمسك بيدها .. قبض عليها بما تبقى به من قوة .. ابتسم ابتسامة عريضة .. أغمض عينيه .. شبح ابتسامة ما زال يغطي الوجه ... وما زالت اليد المحترقة تقبض بقوة على اليد الرقيقة .
+++++++++++++++++++++++
( الصورة الثانية )
طفل هو بكل المقاييس ... طفل غض بريء .. له أحلام كبار .. كأحلام الرجال ..بل لعلها أكبر بكثير ..
كان يحلم بأن يرى قريته .. التي طالما حدثه عنها والده .. يحلم بأن يرى زيتون كرمهم الكبير الواقع في أطراف القرية والممتد حتى حدود القرية المجاورة ... كان يحلم بأن يرى بيارتهم الكبيرة .. التي كان والده يزهو بها ويفتخر ويتولى أمر الزراعة فيها والإشراف عليها والعناية بها بنفسه . كان يحلم بأن يرى الأشجار .. الأطيار .. الأنهار .. الأزهار .. كان يحلم بأن يرى كل شيء في الوجود .
كان يحلم بأن يرى نفسه شاباً يافعاً .. رجلاً قوياً.. يحمل الشهادة العليا في الطب .. يخدم وطنه .. أهله .. طبيب ماهر .. ذائع الصيت .. طبيب متخصص في علاج العيون .. كان يحلم أن يرى نفسه بالزيّ الأبيض المميز للأطباء .. النظارة المميزة .. الشخصية المميزة .. كل ما هو مميز
قذيفة حمقاء غادرة تحط على المنزل .. تحطمه تماماً .. وتحطم الأحلام الطفولية البريئة .. تفقأ عينيه ؟؟!! ..تقتل أحلامه العريضة .. تئد براءته ..
تحدث لمن حوله وهو على سرير المرض بروح عالية .. بنفسية رائعة .. راح يسرد لمن حوله أحلامه التي لا تنتهي .. أحلام القرية .. البيارة .. الأشجار .. الأطيار .. الأنهار .. الأزهار .. راح يؤكد للجميع بأنه يراها .. ليس حلماً .. بل واقعاً.. فهي مرسومة ... محفورة .. منحوتة .. في أرجاء نفسه وقلبه ..
مد يده ناحية عينيه اللتين كانتا مغطاتين القطن والأقمشة ... راح يسأل بإلحاح غريب :
-لماذا هم فعلوا ذلك ؟؟؟!! لماذا هم فعلوا ذلك ؟؟؟؟!!!
+++++++++++++++++++++++
( الصورة الثالثة )
المهمة صعبة .. الأحداث تتسارع .. النداءات تتوالى .. وعليه أن يلبي كل نداء ، وأن يكون في ميدان الحدث بدون تأخير ، ليقوم بمهمة نقل المصابين .. المرضى .. الشهداء .. تكرر النداء بإلحاح غريب ، كان أثناءه يقوم بالمهمة .. مهمة نقل بعض المصابين للمستشفى .. أوصل الجرحى للمستشفى .. قاد سيارة الإسعاف بسرعة ليلبي النداء المتكرر المتلاحق من جديد ..
وصل إلى المكان .. أصابته الدهشة .. الغرابة .. إنه منزل شقيقه .. شقيقه الذي يسكن هنا مع زوجته وأطفاله .. ترجل من السيارة بسرعة .. تناسى أمر ما كان بينه وبين شقيقه من قطيعة .. حيث أن الخصام كان قد دب بينهما منذ سنوات طويلة .. تناسى الأمر برمته .. فالأمر أقوى من أن يدع مثل تلك الأمور لتظهر على السطح .
اندفع يساعد المسعفين والمنقذين بإخراج الجثث من بين الركام .. أخرجوا جثث الأطفال المتفحمة .. ثم جثة الأم .. وأخيراً .. جثة شقيقه ..
ما كادوا يصلون إلى جثة شقيقه .. حتى كان القصف المزمجر المعربد يغطي المكان من جديد .. أصيب السائق وكل المتواجدين بإصابات خطيرة .. واستشهد بعضهم ..
نقلوا السائق إلى إحدى سيارات الإسعاف .. ووضعوه بها .. في اللحظات التالية تماماً .. كانوا يأتون بالمصابين الآخرين .. يضعونهم إلى جانب بعضهم البعض ..
فتح السائق عينيه ببطء .. اصطدم بصره بشقيقه المسجى إلى جانبه .. تلاقت نظرات الأشقاء .. ظهرت الابتسامات على الوجوه المحترقة .. الملطخة بالدماء ..
في نفس الوقت ... في نفس اللحظة .. كان كل منهما يمد يده المحترقة المشوهة .. المضرجة بالدماء .. ناحية شقيقه الآخر .. يصافحه ... يضغط على يده بقوة وحرارة .. ولم يتفوه أحد منهما بحرف .
+++++++++++++++++
( الصورة الرابعة )
سيارة الدفاع المدني تصل إلى المكان .. كل شيء يحترق .. المنزل مدمر تماماً .. أصبح ركاماً وحطاماً .. أصوات متنافرة تملأ المكان ضجيجاً.. سيارات الإسعاف .. سيارات الدفاع المدني .. الصراخ المدوي بالتكبير والتهليل من الجميع وهم يتدافعون نحو الركام . هرع إلى المكان .. أخذ يساعد الجميع بالإغاثة .. وبعد جهد جهيد .. ووقت طويل استطاعوا الوصول إلى مكان الشهداء بين الأنقاض .. ساعدهم في حمل الجثة الأولى ووضعوها في سيارة الإسعاف .. ثم الجثة الثانية .. الثالثة .. الرابعة .. الخامسة.. السادسة ..
لم يتبق أحد .. لم يجدوا أحداً آخر .. أمروا سيارات الإسعاف بالتحرك نحو المستشفى .. فلقد أدى الجميع المهمة وعليهم أن ينتقلوا إلى مكان آخر لنفس الأمر ... نفس المهمة .
صرخ سائق سيارة الدفاع المدني بحدة وبصوت مجلجل :
-انتظروا .. انتظروا ... لقد تبقى تحت الأنقاض جثة أخرى .
توقف الجميع .. عادوا إلى المكان .. نظروا ناحية الرجل بتعجب وغرابة .. سأله أحدهم بدهشة:
-وكيف عرفت ذلك ؟؟
صرخ سائق السيارة بصوت متحشرج يختنق بالبكاء :
-لأن هذا المنزل ... هو منزلي ..
+++++++++++++++++++++
( الصورة الخامسة )
أخذ يتلوى من شدة الألم .. مغص كلوي حاد أصابه فجأة كالعادة.. قرر أن يقود سيارته الخاصة ليذهب إلى المستشفى .. حاولت زوجته ومعها الأطفال أن تثنيه عن عزمه .. اقترحوا الاستعانة بسيارة من سيارات الإسعاف ... رفض ذلك لأنه يعلم الدور العظيم الذي تقوم به سيارات الإسعاف في ظل هذه الظروف العصيبة التي يمر بها الجميع .. اقترحوا مرافقته في الذهاب للمستشفى في سيارته الخاصة .. رفض ذلك بشدة .. وأفهمهم أن في تواجدهم معه في السيارة خطورة عظيمة عليهم .. فالخطر يحدق بأية سيارة تتواجد على الطريق .. فهي تكون معرضة بالتأكيد للقصف .. وهو لا يريد أن يعرضهم للخطر .. ألح عليهم بضرورة بقائهم في المنزل .. حيث الأمان التام .
وافقت الزوجة ووافق الأبناء والأطفال على قبول الأمر على مضض .. قاد سيارته الخاصة إلى المستشفى وحيداً .. وهو يقاسي ويعاني الآلام المبرحة.
عالجه الأطباء في المستشفى بما تيسر من إمكانيات .. ثم عاد إلى المنزل وقد خفت حدة الآلام بعض الشيء .. حتى وصل .
استولت عليه بعض الأفكار في البداية بأنه قد ضل الطريق .. ولكن تلك الأفكار تلاشت تماماً ... عندما وصل إلى المكان .. المنزل المتهدم تماماً .. بينما الطواقم المختلفة تقوم بإخراج الشهداء والأشلاء من تحت الركام .. وأكوام الأنقاض .. عرف بأن المنزل هو منزله فعلاً .. وبأنه لم يضل الطريق .. عرف ذلك عندما تمتم طفل شبه متفحم :
-أبي .. هل وصلت ؟؟ .. هل شفيت ؟؟ .. الحمد لله على سلامتك يا أبي .
+++++++++++++++++++++++++
( الصورة السادسة )
" انتظريني يا طفلتي الحبيبة قليلاً ... فسوف أعود إليك ثانية .. سأحضر لك الحلوى .. والأشياء الأخرى التي تحبينها .. فقط .. عليك أن تنتظريني قليلاً... "
قالت ذلك وهو تودع طفلتها الوحيدة .. بعد أن رفضت مصاحبة الأم إلى المنزل .. وتمسكت بالبقاء في منزل جدها وجدتها .. غادرتها لسويعات قليلة .. كي تذهب إلى منزلها .. بيت الزوجية .. لتعد الطعام لوجبة الإفطار .. حيث اقترب موعد آذان المغرب وكانت قد نوت وزوجها الصيام نافلة لوجه الله تعالى .
وصلت المنزل .. توجهت فوراً إلى المطبخ لإعداد وجبة الإفطار بعد يوم الصيام ... يوم طويل حافل بالأحداث الجسام التي يمر بها الوطن .. لم يكن زوجها قد حضر من الخارج بعد .. اقترب موعد آذان المغرب .. كانت قد أنهت إعداد الطعام أو أشرفت على ذلك .. سمعت صوت بوق السيارة في الخارج ... كان زوجها قد وصل بالفعل إلى المنزل برفقة شقيقه ... وابن شقيقه .. وابن عمه .. وبعض أقاربه .. توجه الجميع للوضوء استعداداً لصلاة المغرب جماعة .. فبعد لحظات قليلة سوف ينطلق صوت المؤذن ..
جهزت المائدة بشكل تام .. انطلق صوت المؤذن عالياً كالرعد المدوي .. ثمة رعد أسود مدوٍ بجنون.. صاحب الصوت الملائكي .. تزلزلت الأرض .. تناثر الطعام.. تناثرت الجدران.. وتناثرت الجثث والأشلاء ..
عمل الجميع كل جهدهم على إخراج الجثث من تحت الركام .. من تحت الأنقاض .. فهذه جثة شهيد .. وهذه أخرى .. وأخرى ... وأخرى .. وأخرى .. و..
عندما كانوا يخرجون جثتها من تحت الأنقاض .. كانت ما تزال تهمس بصوت متحشرج :
" انتظريني يا طفلتي الحبيبة قليلاً ... فسوف أعود إليك ثانية .. سأحضر لك الحلوى .. والأشياء الأخرى التي تحبينها .. فقط .. عليك أن تنتظريني قليلاً ... "
[/align][/cell][/table1][/align]