رد: خريف الأحزان
صارت الأيام و الليالي رتيبة تتخللها أحداث عابرة لا تذكر، و الشجرة الجدة تظللنا بأوراقها الوارفة، و الحمامة البيضاء تحضن في ود صغارها.. و أنا جالسة مكاني هناك قرب النافذة، أرقب كل ما حولي في فتور و ملل.. و أتذكر حين كنا أنا و صويحباتي نرتع و نلعب هنا و هناك..
كم ضمتنا جدتي الشجرة بغصونها المفعمة بالحنان.. و كم لطخنا أنفسنا بتراب الحديقة المزهرة صيفا و شتاء.. و كم جلسنا نتسامر تحت ضوء القمر و تحكي كل منا حكاياتها و قصصها و في مرات كثيرة مغامراتها الجنونية الصبيانية..
أواه كم بعدت تلك الأيام و كم كانت قليلة..
تفرق الجمع و تشتت السرب، سار كل طائر إلى مصيره، و صارت كل وردة إلى بستان.. آخر الورود صديقتي الحميمة، اجتثت قريبا لتزرع في مكان غريب و بعيد عنها و عني.. كان مثيرها أن تسافر إلى الخارج حيث لا قريب و لا حبيب، لا أنيس و لا جليس.. لكن عزاؤها الوحيد و سلواها أن تكمل دراستها الجامعية و تعود بأعلى الشهادات.. حلمها الذي ربى معها أن تصير طبيبة، هكذا أنشأها والدها الذي كان يحب المهنة..
عندما سمعت الخبر أحسست كأن قلبي نزع من بين ضلوعي أو كأن نصفي قد تخلى عني، أو كأن دمي انساب قطرات من بين أناملي، أو ربما كأن أيامي و ليالي ستغدو عما قريب بلا لون و لا طعم..
يا ألمي الذي يزداد ألما و هي تخبرني أن الليلة موعد رحيلها.. تحاكيني و الأسى يعصرني، و يعصف الحزن بأرجاء كياني تذهب بي الذكريات و تأتي بي ،حتى ما اعرف أمسي من غدي.. أرمقها بعيني التي فاضت دمعا منسكبا شلالات على خدودي.. أسائلها لم الرحيل يا رفيقتي.. يا نصفي ؟ فتبادرني عبراتها ألا حيلة لي في الرحيل، قد كان رغما عني و اتخذته سبيلا للوصول، فكوني سندا لي و لا تجعلي الأسى يكون آخر ما رأيتك عليه قبل رحيلي.. فأصمت و صمتي كان كلامي.. غضبي .. و ثورتي .. و أغضي طرفي لأني أفارقها و لا سبيل لي لأعلن رفضي..
في المساء صحبتها إلى المطار.. كان الجو قاسيا ينبئ عن بداية سقوط المطر، و السماء تحلت بحلة رمادية و الرعد يدوي بين الفينة و الأخرى تتخلله بروق في وميضها الإعلان عن بداية موسم الشتاء، و في ثورانها مشاركة صريحة لحوني على هذا الفراق المرير..
صمت مميت خيم داخل السيارة التي تقلنا.. وصلنا بسرعة حتى اني ما أحسست بطول الطريق.. حينها ما كنا نحس بغير الألم و الأسى الذي كان يتقاذفنا نحن الاثنتين كما تفعل هذه الرياح المحملة بجو الشتاء بكل ما تصادفه في طريقها..
لم يتبق من الوقت غير اليسير، و بدأ العد العكسي للفراق.. هنا بدت الدقائق كأنها ساعات تمشي ببطء و تتوقف عند كل نظرة منها أو مني..
أخذتها بين أذرعي، ضممتها بشدة كما فعلت هي معي.. و سجنت عبراتي داخل مقلتي، ثم رسمت ابتسامة بدت شاحبة على وجهي معلنة عن فراق يطول أو ربما لا يطول..
رحلت هي و عدت أنا إلى مكاني قرب نافذتي، أجوب بنظراتي عنان السماء، و اتفكر في خلق الله سبحانه و تصاريف القدر.. رباه ، حزن آخر انضاف إلى قائمة أحزاني.. و هذا القمر يطل علي من علياء السماء، مضيئا كعادته.. و الشجرة الجدة ترقبني بحنو و دفء.. أما الحمامة فهي غارقة في نوم هادئ و هي تلقي بجناحيها على صغارها...
|