سألني الأخ المبدع يسين عرعار السؤال التالي :
(هل الأدب الإسلامي لابدّ عليه أن يعيش في دائرة المتخلّق أم عليه أن يقترن بحرية الفكر ؟ لماذا ؟ )
أجيب عن سؤال أخي يسين
الأدب كما عرَّفهُ علماؤه ؛ هو ما يُنتج العقل الإنسانيّ من ضروب المعرفة، ويُطلق الأدب بوجه عام على جملة المعارف الإنسانيّة ، كما يُطلق بوجه خاص على الكلام الّذي يعبّرعن الأفكار والمشاعر والتجارب الإنسانيّة في قالب فنّيّ يُعجب ويؤثّر
…
كما عُرِّف الأديب بأنّه" الآخذ بمحاسن الأخلاق والحاذق بالأدب وفنونه" وفي ضوءِ ذلك التعريف ،يمكننا القول إنّ محاسن الأخلاق هي مُنتمَى الأعمال الإنسانيّة الأدبيّة الإبداعية بمختلف أشكالها وأنماطها ووجوهها ، لأنّ الأخلاق الحميدة ومكارمها، هي الفطرة السلوكيّة الإنسانيّة في الخَلْق ، التي تميز مابين الإنسان ( الّذي خُلِقَ في أحس، تقويم) وبين المخلوقات الدّونيّة الأخري .
كما وأنّ حُسْنَ الخلُق ، هو معنىً من معاني الأدب المنجذّرة والمتأصّلة في ثقافتنا الإسلاميّة والعربيّة ، وحينما نقول إنّ الأدب هو جملة المعارف الإنسانيّة، وأنّه يعبّر عن الأفكار والمشاعر والتجارب الإنسانيّة ، فإنّنا نقف أمام معطيات عملٍ إنسانيّ جماليّ ، يُنشئ التزاماً أخلاقيّاً طوعيّاً في العمل الإبداعي بصورة تلقائية من غير إلزامٍ من أحد .
فالإنسان (بطبيعةِ خَلْقه) سويٌّ قويم ،وملتزمٌ " سلوكيّاً" بالأدبيّات الإنسانيّة الأخلاقيّة مع نفسه أوّلا ، ثمّ مع عائلته ؛وهي الخليّة الإجتماعية الأولى ، ومع مجتمعه أيضاً، وإلاّ لما كرّمه الله فأمر ملائكته بالسجود للإنسان( أي السجود لرمزٍ خَلْقيٍّ إبداعيٍّ خلْقه الله سويّا وقويماً).
والسلوكيات الإنسانية ، هي صبغة الهيّة فطرها الله في الإنسان . وتلك السلوكيّات ، هي كلُّ لايتجزأ فيه . ولهذا فإنّ ( الأدب) ليس مقصوراً على نتاج الفكر الإنساني فحسب، بل على التزام سلوك الإنسان به في عمله و تعامله الإجتماعي أيضاً .
فلفظ ( الأدب) أُطلق بداية ومازال يُطلق ، على السلوكيات ؛ فهناك أدب الحديث ، وأدب الإصغاء، وأدب المجالس ،وأدب الخطاب والمخاطبة ، وأدب الحوار وأدب الطريق ، وحتّى على أدب المائدة عند الطعام ، الخ .. أمّا لماذا أُطلِقَ لفظ ( الأدب) على الأعمال الفكريّة للإنسان، فبرأيي أنّ تلك الأعمال هي وليدة حُسْنِ إعمال وأعمال فِكْرٍ التزم فيها بحُسْنِ الخُلُق لابنقيضه ، و( الأدب وحسْنُ الحُلُق ) توأمان لاينفصلان ومتلازمان في عموم سلوكيّات الإنسان ، مادّية كانت أو معنويّة ، ظاهريّةً كانت أو خفيّة .
أمّا إذا رأى( أديبٌ ما!)أنّ العمل الأدبي حرٌّ لاتحكمه القواعد الأخلاقيّة، وأنّ عليه أن يتحرّر منها إنْ كان ملتزماً بها، فذلك رأيٌ شخصيٌّ متمرّد غير ملزم لغيره ، يستمده ذلك الأديب من منتماه الفكري ،أو من رؤيته الخاصّة التي لا تستند إلى مرجعيّة ما .
والرأي الشخصي لايعني لثوابت الإبداع الأدبي بشئ ، فجلٌّ الفنون والآداب الإبداعيّة نراها تُقدّم من أصحابها بأشكالٍ وأنماطٍ مختلفة ،حسب اختلاف فِكَرِ وقيم المبدع نفسه ، وشرعته ورؤيته في الحياة .
ـ أما " الشّعر " كما عرّفه بعض المعاجم ، ومنها ماقيل: " هو الكلام الّذي يقوم في بنائه على الموسيقا والوزن، ويتّسمُ في صياغته بالتصوير الجميل والخيال المبدع ، ويعتمد في تأثيره على إيصال أكبر قدرٍ من الّلذة الجمالية والمتعة العقليّة". (
عن قاموس الصّحاح عن مجمع اللغة العربيّة في القاهرة).
وأتابع فأقول: -
إنّ المتعة شعور طلْقٌ غير مقيّد بحالة واحدة ، وهي وليدة الإحساس باللّذة في نفسٍ تآلفت وتماهت بعملٍ إبداعيٍّ ما ، سواءٌ كان مرئيّاً أو مسموعاً أو مخطوطاً .
والعمل الإبداعيّ الّذي يُمتعُ شخصاً ما، قد لايُمتع بالضرورة شخصاً آخر ، إلاّ إذا كان العمل الإبداعي (بمختلف أنواعه) يتوافق مع نمط حسّية الطرفين .
والمضمون الأخلاقيّ لأي عمل إبداعيّ،لايحتمل بالضّرورة حتميّة إمتاع كلّ النّاس، ولكنه يُمتع بعضَ الناس مثلما يُمتع العملُ المجرّد من المضمون الأخلاقي البعضَ الآخر، تلك هي مسألة ترتكز على خصوصيّة المستمتع من جهة، وعلى نمطيّة العمل الإبداعي نفسه من جهةٍ أخرى. والنفس (غير المحصّنة) بتقوى الله وحُسْنِ الخُلُق ،تألف وتتآلف مع من يثير غرائزها، ويحشو مخيلتها بمفردات الجنس من أجل إمتاعها، وكثيرٌ من الناس من يسعى إلى هذا الإتجاه ويستهويه مع الأسف، فيما لغتنا العربيّة غنيّة بالمفردات والمعاني التي يسهل على الشاعر استحضارها ، لتمدّ أعماله شكلاً خلاّباً ومضموناً أخّاذا يأخذ بمجامع القلوب، ويستجلب المتعة الإيجابيّة للمتلقّي، حتّى وإن كان من عشّاقِ الأعمال الهابطة. المثيرة للغرائز.
وهناك شواهد كثيرة في ساحات الشعر القديم والحديث على ذلك، وأذكر لك على سبيل المثال بيتينِ في الغزل لعنترة العبسي:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل *** مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها *** لمَعَت كبارق ثغرك المتبسّـــــــمِ!
وأضيف جديدا ورد على خاطري بعض من قصيدة لأحد الشعراء القدامي:
أغار عليها من أبيها وأمّهـــــــا **** إذا حدّثاها بالكلام المغمغـــم
أغار عليها أن ترى الشمسُ وجهها *** بأحسن موصوفين قدٍّ ومِعصم
لو لم يمس الأرضَ فاضلُ شعرها **** ما جاز عندي في التراب تيمّمي
فهل يوجد أعفّ غزلاً وأسمَى متعة من ذينك البيتين اللذين تحلّيا بمحاسن الأخلاق في شعر الحبّ والغزل؟ وهل عجزا عن الإمتاع الذي لا يأتي بمثله شعر جنسيٌّ هابط ؟
ـ
ـ إنّ التقيّد بالأخلاق في العمل الإبداعي عموماً، لاينتقص من جمالية النص الأدبي شعراً كان أم قصة، فمحاسن الأخلاق نفسها كما أسلفْت، هي سلوك جماليّ إنسانيّ، وحينما يتحلّى النص الأدبي بِسِمة أخلاقيّة، فإن النصّ يتفوّق جمالاً على جمال.
فمركزية الجمال تكمن في حسن الخلق وهي كنبع ماء، يعطي للآخرين ما عنده، ولا يأخذ منهم شيئاً، لأنه فتحة عطاء متدفّق، تدفق بما في داخلها لخير النّاس ، وتصدُّ من يدخل إليها ماهو شرّ للناس.
والجماليّة الأخلاقيّة هي سمةٌ من سمات وصفات الله ، منحها للإنسان لخيره وخير عمله، فإذا ما صاغ الإنسان عمله بمسحة جمال إنسانيّة وأضاف عليه مسحة من صفات الله، فإن تلك الأخلاقيّة تؤثر في جمالية النص ايجاباً فتزيده
جمالاً لايدركه إلاً من آمن واتّقَى.
ــ فالشعراء قادرون على تطويع أعمالهم في المديح والهجاء والغزل لتتحلّى بمبادئ الأخلاق، وقد سبق أن ذكرت أنّ اللغة العربية ثرّةٌ بالمعاني والمفردات التي تلائم كل نوع من أنواع الأدب عموماً، ولذلك فمسئولية التقصير تُلقى
عليهم. وقراءة بسيطة في دواوين الشعراء، تجد أن كثيراً من الأعمال الإبداعيّة أزهَرَ في روابي جمالية الأخلاق.
ــ و الأدب عموماً، يقوم على قاعدتين اثنتين هما :-
(1)-عموميّة شكليّة
(2)-خصوصيّة موضوعيّة.
فالقاعدة الأولى هي ثوابت عامّة، تحكم العمل الأدبي ليكتسب مسمّى الأدب، وبدون توافر تلك الثوابت فيه، لايكون العمل أدباً ولا يسمّى باسم الأدب،... أمّا القاعدة الثانية، فهي المنهج والخصوصية الّلذان يخضع لهما العمل الأدبي وفق انتماءات الأديب الفكرية والعقديّة وغير ذلك، ليستقل بخصوصيةٍ تفرقه عن الأداب الأخرى. ومن هذا الفهم خرجت رابطة الأدب الإسلامي العالمية بأدب يتّسم بسمات الإسلام، عرّفتْهُ بأنه:
(
التعبير الفنيّ الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التّصوّر الإسلامي ).
وكان البعض، من قبلُ ومن بعد، قد نحى بأدبه مناحيَ منهجيّة أخرى ، كلٌّ بحسب انتماءاته، وسمّى أدبه باسم تلك الإنتماءات، كالأدب المسيحي والأدب الصهيوني والأدب العبثي وأدب اللا معقول، وغير ذلك كثير.
فنشأ من ذلك أدبٌ إسلاميّ وأدبٌ غير إسلامي، مع أنّ أدباً ما يكون إسلاميّا وإنْ لم يقترن بمسمّى الإسلام، إذا توافقت خصوصية موضوعيته مع خصوصيةِ الإسلام.
و من الجدير ذكره أنّ الأدب الإسلاميّ لايناقض الأدب العربيّ ولا يفترق عنه، فكلمة (العربي) التي اقترنت به كانت نسبة إلى اللغة، لا للتمايز.
ـــإن الأدب الإسلامي يغترف من مورِدهِ الإسلامي الغزير بالفِكَرِ، كما يغترف من المعارف الأُخرى المتوافقة، فقد قيل(الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدَها التقَطها)، والأدب الإسلامي ليس متعصِّبا لنفسه، ولا منغلِقاً على ذاتهِ، ولاينكِرُ أو يستنكر فِكَراً إنسانيةً في أدب ما، وإنْ لم يحمل سمة الإسلام.، فهو منفتحٌ على الأداب الأخرى، يأخذ منها مايتوافق مع منهجه ونظرته الإسلامية إلى الكون والحياة، ويعطي لها، من دون أن يفترق عنها،إلاّ إذا كان الأدب الآخر يقف على طرف نقيض ،وكان قائماً على خلفيّة ثقافيّة مستنكَرَة، أو على فوضويّةِ فِكْرٍ وتفكير، أو على ثقافة غربيّة علمانيّة، أو على مزاجيّة منفلتةٍ من كل قيد.
ــ وموقع الأدب الإسلامي يمشي حثيثاً ليؤكّد وجوده في غمار( آداب ) أخرى تثير الغرائز وتسيطر على نسبة كبيرة من الشّبيبة التي أُخِذتْ بمشاهد الجنس في مختلف الوسائل. إنها معركة قائمة، والبقاء للأصلح.
-للأسف الشديد فهذا هو واقع الحال. فالّروحانيات لم يعد لها قبول في هذا العصر (عصرَ الإنحطاط) فقد أصبح عصرنا هذا تحت وطأة المادّيات الطاغية عليه..
إنّ محاسن الأخلاق هي رَوْحُ روح، والرّوح لاتفنى في رَوْحِ محاسن الأخلاق، حتّى وإن رَحَلَتْ ظاهراً من الحياة، أمّا مساوئ الأخلاق، فهي ميتةٌ مميتةٌ وإنْ بقيت على شكل من أشكال الحياة.
**************
انتهى
ملاحظة /
الجواب مقتبس من حوار أُجراه معي حسن الأشرف منذ زمن
(
جرت عليه تحديثات وتعديلات بسيطة مستجدة ).