[align=justify]المداخلة الأولى
تمهيد لابدَّ منه..
ـــــــــــــــــــــــــ[/align]
[align=justify]ثمة فعاليات تبدو، للوهلة الأولى، مستقلة منفصلة عن بعضها، لا صلةَ ظاهرةً بين أيٍّ منها والأخرى، لكنَّ الدراسة المُعَمَّقَة لكلٍّ منها على حدة، ثم لها مجتمعة، تكشفُ عن علاقات قوية جداً تربط بينها، حتى لتبدو للعين الخبيرة منظومةً متكاملة لا يمكن لأيِّ فعاليةٍ منها أن تُؤدِّي وظيفتَها منفردة؛ كما تكشف دراسة هذه الفعاليات عن وجود تسلسل تاريخي لظهورها؛ وعن كَونِ الأسبق ظهوراً منها، في الغالب، سبباً في ظهور الفعالية التي تليها، تلك التي كانت سرعان ما تتحوَّلَ، بدورها، إلى عامل داعم للفعالية التي أنتجَتها، وذلك في إطار آلية تفاعلية مستمرة. ومن أهم هذا النوع من الفعاليات:[/align]
[align=justify]1) الاستشراق
2) البعثات التبشيرية في العالَمَين العربي والإسلامي.
3) الاستعمار الغربي وحملاته القديمة والحديثة للسيطرة على العالم الإسلامي.
4) الحركة الصهيونية وإسرائيل.
5) الحرب العالمية الحالية على ما يُسمَّى "الإرهاب".[/align]
[align=justify]في الواقع، ثمة ضرورة معرفية وأخرى منهجية تقتضيان إلقاء حزمة ضوء، ولو سريعة، على كلِّ واحدة من الفعاليات الخمس الآنف ذكرها، بُغية بيان العلاقة بينها من جهة، وبيان العلاقة بين المخططات التي رسمها مهندسو كلِّ فعالية مع مخططات الفعاليات الأربع الأخرى من جهة ثانية، ثم بيان الهدف الاستراتيجي المشترك لهذه المخططات كلها من جهة ثالثة، والمُتمَثِّل في تفتيت العالَم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً إلى دويلات وكيانات صغيرة ضعيفة تَسهُل الهيمنة عليها جميعاً، عن طريق إشعال الفتن والخلافات الطائفية والدينية والمذهبية بين أبنائها، وإثارة النزعات بين أعراقهم المتعددة، بُغيَةَ إشغالهم ببعضهم لإلهائهم تماماً عن محاربة عدوهم المشترك المتمثل بالاستعمار والصهيونية.[/align]
لكنْ، وتَجَنُّباً للخروج عن إطار مداخلتي، في هذا البحث المُتَشَعِّب،، فسأكتفي بالتركيز على موضوعها الرئيس وهو علاقة الصهيونية وإسرائيل بالاستعمار الغربي، ودورهما الوظيفي في تنفيذ مخططاته الرامية إلى تفتيت العالَمَين العربي والإسلامي، لتحقيق أهداف دينية واقتصادية؛ لاسيما وأنَّ الأستاذة هدى الخطيب قد أَلْقَتْ، في إطلالاتها التي ضَمَّنَتْها هذا البحث، ضوءاً ساطعاً على التبشير وإرسالياته وأهدافه وأهم وسائله وطرقه، وقد تَضَمَّنَت هذه الإطلالة أيضاً إلماحات سريعة، ولكن غنية، إلى الاستشراق وصلته الوثيقة بالتبشير والاستعمار وأهدافهما؛ ثم أَثْرَى الأستاذ محمد الصالح الجزائري مداخلةَ الأستاذة هدى بما قدَّمه من معلومات حول التبشير وطَرَفاً من طُرُقِهِ وأساليبه في الجزائر، وكذلك فعلت الدكتورة رجاء بنحيدا في مداخلتها الثرية أيضاً، ولذلك لم أَرَ التوسُّعَ في موضوعَي الاستشراق والتبشير بشكل عام، بل الانتقالَ مباشرة إلى تقديم إطلالة سريعة على علاقة التبشير بالصهيونية، يُمكن التمهيد بها مع إطلالة سريعة أخرى على علاقة الاستعمار بالصهيونية، للحديث عن الدور الوظيفي للصهيونية وإسرائيل في مخططات الاستعمار الغربي لتفتيت العالم العربي..
حزمة ضوء على العلاقة بين التبشير والصهيونية
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[align=justify]
على الرغم من العداء التاريخي المزمن بين المسيحيين واليهود، اتفق مسيحيو أوروبا مع يهودها الصهاينة على عداء العرب المسلمين، ولم يُصِرّ المبشرون على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين إلا لأن إنشاءه يضعف العرب إضعافاً شديداً ويفتح أبواب بلاد الشام أمام حملات التبشير وإرسالياته، ويحول فلسطين إلى أهم نقطة هجوم لهم على العالمين العربي والإسلامي.
إلى ذلك، فكَّرَ مبشرو الغرب وساسته أن تعاونهم مع الصهيونية على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين لن يوفر لهم مركز هجوم متقدم على العالم العربي فحسب، بل سيخلصهم من يهود أوروبا أيضاً، أولئك الذين سيشجعهم الأوروبيون على الهجرة إلى فلسطين.. فمن خلال معايشتهم الطويلة لليهود عرفوا أنهم قوة هدم عظيمة خافتها امبراطورياتهم القديمة وحاولت التخلص منها بشتى الوسائل، وبالتالي، فإذا نجح الغرب بتجميعهم في فلسطين، يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد، كما يقال، فمن جهة يتخلص منهم، ومن جهة ثانية يُوظِّفُهم في حربه على العرب والمسلمين..
ويطول الحديث جداً عن بدايات التعاون بين المبشرين الغربيين والصهاينة، خصوصاً وأن بداياته تعود إلى ما قبل القرن التاسع عشر.. وثمة من يُعيدها إلى بدايته حين أسَّس المبشرون الإنكليز عام 1809 (الجمعية اللندنية لنشر النصرانية بين اليهود) التي كان هدفها تهجير ما أمكن من يهود العالم إلى فلسطين، بُغيَةَ استخدامهم لإضعاف نفوذ العرب والمسلمين في الشرق الأوسط. وقد استغل المبشرون فترة حكم محمد علي في مصر بعد توسيع رقعة نفوذه إلى بلاد الشام التي بسط سيطرته فيها على سوريا وفلسطين وعين ابنه حاكماً عليها، فنشطوا في إرسالياتهم التبشيرية وفي تعاونهم مع اليهود، مُطمئنين إلى ما اشتُهر به محمد علي من تسامح مع الإرساليات التبشيرية. وقد أثمر نشاطهم في تلك الفترة عن عدة نجاحات من أهمها وَضْع أساس أول كنيسة بروتستانتية في الإمبراطورية العثمانية، وهي تلك التي أطلقوا عليها اسم (كنيسة صهيون).. لكن ما لبث أن تَوَقَّف نشاطهم إِثرَ انسحاب محمد علي من بلاد الشام عام 1840 وعودة العثمانيين إلى موقفهم المتشدد من المبشرين وإرسالياتهم.
على هذا، وفي ضوء معطيات أخرى كثيرة، يمكن توصيف علاقة الصهاينة بالمبشرين أنها علاقة تبادل منافع، أو علاقة مصلحية براغماتية، بالدرجة الأولى، تمت على خلفية تحييد الطرفين لمشاعرهم العدائية الدينية تجاه بعضهما، ولو بشكل مؤقت، ريثما يتمُّ لهما إنجاح مخططهما المشترك ضد المسلمين العرب بشكل خاص.. لكن هذه العلاقة، على قوتها، لم تُغيِّر من نظرة طَرَفَيها العدائية لبعضهما، فقد ظلَّ اليهود يضمرون الكراهية والشر لأتباع عيسى عليه السلام، كما يضمرونه للمسلمين والناس أجمعين، كما أن القيادات المسيحية في أروبا مازالت تضمر الكراهية لليهود والحقد عليهم لقناعة معظم المسيحيين بأنهم قَتَلَة المسيح عليه السلام، وقد ظلت هذه الكراهية مستمرة، لكن تحت السطح، حتى بعد إعلان الفاتيكان براءة اليهود من دم المسيح. وثمة كتابات كثيرة تؤكِّد هذا الزعم، سأشير إلى بعضها لاحقاً..
ولعل من الضروري الإشارة هنا إلى أنَّ اليهود كانوا أقدر على كسب القدر الأكبر من المنافع، في إطار هذه العلاقة، ويكفي لتأكيد صحة هذا المعطى القول إنه مقابل كل الخدمات التي قدمتها الصهيونية وإسرائيل للقيادات المسيحية الدينية والسياسية في أوروبا والولايات المتحدة، وخصوصاً في العالَمَين العربي الإسلامي، على الصعيد الاستعماري بكافة أشكاله وصوره، فقد كان ربح الصهيونية من نتائج هذا الاستعمار أكبر، على مختلف الصعد، هذا فضلاً عن تغلغلها إلى دوائر القرار السياسية والدينية في أوروبا والولايات المتحدة، ووصولها إلى حدِّ الإمساك بدفة القرار في الفاتيكان وتوجيهها لصالح إسرائيل والصهيونية..
سأكتفي بهذا القدر من الحديث عن علاقة المبشرين المسيحيين بالصهيونية وإسرائيل، وقد أعود إلى توسيع الحديث في هذا المنحى لاحقاً، إن وجدتُ ضرورة لذلك، في سياق البحث، أو حتى على شكل استطراد اراه مفيداً في كل الأحوال، لكن سأخصص المداخلة التالية لي في هذا البحث عن الدور الوظيفي للصهيونية وإسرائيل في مخططات الاستعمار لتفتيت العالم العربي بشكل خاص..[/align]
يتبع....