* الجزء الثالث عشر *
[align=justify]
كانت كمن ينجز من شظايا الرّوح كتابا، لتطلع منه عطور الكلمات باهظة القيمة الحسّية .. تعطّر الأجواء و قد تسرقها أسقف أخرى كي تتداوى من عللها الفتّاكة .. و من أطياف النساء المتجمّعة، من آخر سحابة مرّت ليلا عبر سيجارة ساخطة و أنفاس هدّها سلّم التنهيدات العشوائية بين صعود و هبوط ..
كانت امرأة جافتني حدود كبريائها، حتى ضعت وسط جغرافية أبنيّتها الشاهقة .. و المتعجرفة التفاصيل .. تماما كأغنية توقّف الرّقص عليها عند شهقة حرف ... قد يكون كاتب كلماتها، انتحر على عتباته تراشقا بجمر قسوته .. الشّعر أيضا له وصلات أنانية .. تصنعها عنجهية الكلمات و حروف استعطاف مكابرة ..
حتى يوم سقطت أمامي بعد غصّة ألم .. و هي تعبّر عن حبّ الوطن و عن فلسطين و عن العروبة المسفوكة .. في معرض حديثنا العشوائي الذي طال أقطار الأزمات و النّكبات و الحروب .. يومها تناهى لسمعي صوت قلبها الهزيل و هو يدّق بشحنات متوتّرة، زاهدة في السكينة .. كانت ترتجف إيذانا بسقوط وشيك ..
يومها تيتّمت عينيها من بريقهما فجأة و كأنّه إنذار بقدوم ليل غريب ..
شعرت أنّها تبكي حبا وطنيا خاصا، اختلطت على حواف قلبها مواجعه المتطرّفة ... غير أنّ بكاءها لم تُحيِّنه صدف نداء وطن، بقدر ما حيَّنته ذكرى ما .. و كأنّ صوتي الرّجولي المكتوم .. قد استأثر مواقف الضعف في نفسي، فأحنى لها قامته و تركها تنبش قبر الألم و الغيرة القاتلة .. ذكرى تجاوزت جدارها الملغوم و حائطها المزروع بأنواع الأسلاك الشائكة و تمدّدت تواسيني عند أوّل صاعقة حطَّت .. فتهالك الوطن ( ذلك الذي ادّعت أنّها تبكيه .. !!) على أريكة صُنِعت من جلد الشجن الخالص .. و تعاويذ رجولة ممارسة بتخفٍ شديد ..
يومها أيقنت أنّها جُرِحت كأنثى .. و ليس كمجرّد شخص ينتمي لجنس النساء ...
قلت لها ذات مساء و نحن جالسين داخل نادي الجامعة .. و هي تسكب في فنجان قهوتها، حفنة من آهات .. بعد أن أفرغته من محتواه المر، الآسن دفعة واحدة و كأنّها تبحث عن جسد تُزْهِق فيه روح الألم :
- كيف لقلب مصاب .. ؟ أن يغرق في حبّ ( شيء ) ينهار منه كلّ ثانية عمود كهرباء، فقد يتوقّف عند ثاني شرارة تخفت .. لن يحتمل هذا الكمّ الهائل من المواجع و الجراح .
قالت : و كأنّها تتغنّى برجل في صورة وطن :
[align=justify]- الفارق بين قلبين، تفاصيل شرايين .. قد تكون متطابقة و قد تكون ضيّقة لا تستوعب غير قضايا الشجن الجادة، حتى تستدرجها بحنكة و مهارة تطويع .. فيذوب الجزء المتماسك منها و ينصهر، أمّا القضايا الموسمية فلا تعيرها اهتماما، غير منحها تأشيرة العبور المسلوب صفة الوقار .. تلك هي ميزة القلب المريض ..
- تخيّل أن يحبّك قلب موّشح بمرض .. أيّ اهتزازة حبّ قد تقضي عليه، أيّ عنفوان ذلك الذي يصيب الموت و أيّ شموخ ..
- أن يحبّك قلب مريض فذلك أشرس أنواع الحبّ .. يتعلّم كيف يتعامل مع ساكنيه بحذر شديد و كأنّ أيّ لحظة شوق قد تسكنه للأبد .. يتعلّم كيف يضخّ الأكسجين بطريقة لا تؤذي أنفاسه المتألّمة .. يتعلّم كيف يحرّر آهاته بصمت .. حتى لا يؤذي الجدار الذي يؤوي إليه حبّه عند كل لحظة هبوط ..
- يتعلّم كيف يحبّك كل ثانية، حتى لا تداهمه لحظة إغماء، فيفقد معها وعيه الحسّي و لا يشعر بتدفّقاتك بداخله ..
- يتعلّم كيف لا يبذّر الحروف و لا يسرف في الكلمات، حتى لا يضيّع منه رصيدا يرسمك به شعرا على صفحاته المتعبة ..
- يعرف كيف يصادق الهواء و يثني على لمساته الصاخبة ..
- يتنفّس منك .. حين يُضيّق عليه المرض شرايينه ...
- أن يحبّك قلب مريض، معناه أنّه قد تخلّى عن كلّ التوافه و الهوامش و اكتفى بكلّ لحظة راسخة، جادة، حازمة ... كل لحظاتك داخله محفورة بعمق ساحق .. لا وجود معها لِمَا هو سطحي مبتذل .. لا وجود لأطياف الذّكرى .. كلّ ذكرياته خالدة، كلّ معزوفاته صادقة، كلّ عطوره مستوردة من عمق الأصالة ..
- فكيف بوطن تنتمي له الرّوح و يوقّره الجسد .. ؟ لدرجة الانبطاح أرضا أمام ندائه و ممارسة الموت باشتهاء كبير ...
- تخيّل .... [/align]
تساوى أمام كلماتها منطق الصّمت و الصراخ و البكاء العاصف .... لم أبرح أوّل درج لمبنى أفكاري الصدئة .. و لو حاولت لانتحرت من أعلى طابق .. كانت ساحرة في كلامها و كانت قاتلة أكثر، كانت حروفها أشهى من أن يعانقها كتاب أو يُشَرِّحها قلم، في تجربة لتدوينها، ثم يخفق فيمحو حبره الموشوم بلحظة جنون .. وجدت نفسي تائها حيالها، بذاكرة أبديّة مختومة .. ترفض المعالجة الرّوحانية، ترفض تدنيس فقراتها الموثّقة، ترفض لحظة تخريف تجاوز عمرها الألفي/ سنة .. وجدتني أتسكّع كورقة صفراء، باهتة بين صحاريها المتمرّدة، الجافة .. أشتهي قطرة ماء تفكّ أسري ..
كانت تربطني بها صداقة علَّمتني معها فنون ممارسة النّقاء ما بين رجل و امرأة .. و كنت لأوّل مرّة أفقد ولّاعتي مع حاجتي المميتة لسيجارة مجنونة، لأوّل مرّة أتفقّد طفولتي، لأوّل مرّة أعقد صفقة أخوّة بين جنسين، تفصلهما لعبة حقارة و شيطان و جسر شبهات، بمنطق أنا نفسي استبعدته .. لكنّي رضيت به بل استجرت به حين عاودتني حاجتي للسكينة .. رضيت به كما هو لأنّني كنت أتوق للحظة صدق حقيقية مع أنثى .. حتّى و لو أُفْرِغت من محتواها الرّومانسي و الكلاسيكي المألوف .. حتى و لو تصيّدت صبري من بركة صدئة، حتى لو أتلفت أناقتي و ألبستها جسدا غير ذلك الذي تعرفه، حتّى و لو تعلّمت كيف أعقد ربطة عنقي بسطحية تامة، تفسد لمسات رجولتي .. حتى و لو مزّقت أوراقها كأنثى ... !!!
حين عدت لقريتي فيما بعد، شعرت برغبة جارفة في الجلوس وحيدا تحت شجرة الزّيتون العتيقة، التي تغطّي بقامتها ارتفاع موج الذهول .. و تسحبني نفسا من سيجارتها، حتى تسكنني عباب السماء .. فأغدو غصنا يافعا ينتظر الخريف القادم كي يجتثّ منه ما تبقّى من وريقات مراهقته .. و يلحقه نهائيا بجيل الرّجولة .. هذا ما كنت أشعر به حين أجلس وحيدا، تسترضيني ابتسامات شجرتي و دموعها عند كل إطلالة شمس ..
هناك كانت طفولتي .. و هناك استرجعت شبابي المسفوك .. و هناك سأؤرّخها، تحت شجرة أعرفها أنا فقط، بتفاصيلها و كلّ انعراجات الأصالة العربيّة فيها .. و كأنّ شجر الزّيتون يصرخ كل مساء بصوته المبحوح، حتى تسمعه كل الأقطار المسلمة، صوت يستنكره العالم الغربي و توقّره قداسة القدس الشريف .. تسامرت معها طيلة ليالي الشتاء و الخريف و بعضا من سويعات صيفي الخاص و ربيعي المتعثّر بزلّة شتوية .. حين كنت أخرج متخفٍ باللّيل و أجلس تحتها و كثيرا ما كنت أقضي ليلتي هناك .. تلك السكينة التي كانت تمدّني إياها تعجز الدنيا حيالها .. و تعجز القصور و الرّفاهية الزائفة، عن صنع لهفتي و سكينتي و وصلة الغناء الصامت التي كانت الرّياح تهديها لي، كلّما اجتاحت السماء كآبة مفاجئة ..
[/align]