![]() |
الأستاذ رمزي بك
على عتبة الباب أدرك أن ( الكل ) أصبح خلفه ، فأخرج القناع ذا الألوان المتلألئة ، وأخفى به وجهه . يمم شطر ( كعبته ) ، وهو يتدارس مع نفسه ألوانا من الأحاديث الفارغة والنكات الماجنة ، التي سيستخدمها حال وصوله ، ليلوي بها الأعناق الممشوقةالمرصعة بالجواهر واللآلئ ، وليبهر بها عيونا أرهقتها أنواع ( الماكياج ) والأصباغ الباريسية . توقف بعربته أمام إشارة المرور ، فانصرف بسرعة لإلقاء نظرات فاحصة على ربطة عنقه ، فبدت له زؤانة بجانب أنفه ، فغرس طرف أظفره بها محاولا إزالتها . تنبه للأضواء الملحة خلفه ، تستحثه على السير ، فتابع القيادة بنزق ،وهو مشتت بين النظر إلى المرآة ، ليمحي آثارالزؤانة اللعينة ، وبين شق طريقه نحو( الكعبة ) . وعندما توقف أمام أسوار ( كعبته ) ، دلف إليه خادم ببزة أنيقة مزركشة ، تذكر الرائي بمرشالات الحروب ، ففتح له باب عربته ، وانحنى بخشوع كأنه يريد التقاط شيئا من الأرض . أهداه تحية وجيزة تليق بمقامه ، وسلَمه مفاتيح العربة . وعندما سار في ردهة ( الكعبة ) كانت يده لا تني ترد التحيات المتتابعة : بونسوار رمزي بك . ولما وصل به المطاف إلى الطابق العاشر ، كانت مجموعة من الشبان في زي ( السموكن ) ، يقفون بوجوه يملؤها البشر،يتبادرون لاستقباله ، ليدخل عالمه الضبابي . :- تفضل .. استرح على المقعد في صدر البهو . وضع رجلا على رجل . مرر أصابعه على شعره الفاحم . وبأناقة مرسومة بدقة ، أخرج سيجارته ، وأخذ يدخن باطمئنان ظاهر . الضحك وشوشة غريبة تنفذ إلى رأسه .والأحاديث الممطوطة ، والعيون الفارغة ، والمكان المبهر ، يذكره ببداية البدء وزيف التمدن . :- تصوروا ياجماعة .. الأسعار نار، والاستيراد مستحيل ، وكل شئ مفقود تقريبا . :- العملة بانخفاض ، ولا نكاد نجد في البلد شيئا . :- يبدو أننا سنصبح شيوعيين . :- على فكرة .. ما معنى الشيوعية مسيو رمزي ؟ ( الابتسامة لا تفارق شفتيها المكتنزتين . وصدرها البارز يذكره بالجوع وبالعري ) . رد ابتسامتها . تخيلها بقميص وردي شفاف تركض باستمرار ، وهو بحرهائج يحتويها بعينيه النهمتين . وأجاب :- الشيوعية .. تعني الشيوعية . ضحك الجميع . تعالت أصوات متفرقة . تذكر أنه في يوم ما كان محاضراً في قسم الفلسفة في الجامعة . :- الشيوعية كفر . :- نعم .. لا يؤمنون بالله . :- ياي ي ي .. سافاج . :- يا لطيف .. الله يجيرنا . داخله يتقيأ . لم أتيت ؟ أتيت ! ماذا أريد ؟ الجنس ؟ الحب ؟ الحداثة ؟ رغبة معرفة كل شئ وأي شئ ؟ المعرفة ؟! ما فائدة المعرفة ما دامت لا تجدي سلوكا ؟ أنا أبكي . داخلي يتمزق . أنا أبكي ، ورأسي يضج بصخب غريب . :- اسمعوا . البارحة حلمت أنني صرت أميرة ، .. عندي حشم وناس وجواهر وأشياء نادرة . فرويد ؟ بل محمد ؟ بل الله ؟ بل أنا ؟ بل العالم .. أواه ماذا أريد ، وكيف أحقق الحلم والتوق ؟ تنحنح . سعل سعلة خفيفة . تذكر ( الكل ) . لا . سيواصل الزيف المبهج . أحكم قناعه . أمامه فاتن ، بكنوزها وشعرها الفاحم الطويل . سيلمس يديها الناعمتين ويحلم . لا ، لن يحلم . فهي أمامه . وسيلمسها الآن ويداعبها ، وستصبح بين يديه حقيقة مبهجة . العالم الملون لا يرفضه . ذاته تحبه وتعشقه . وأيام الثقافة الجادة الماضية حلوة ، لكنها مملة بتكرارها . الجدة عشق ، والعشق نهر يتدفق .. لكن النهر زيف ،والحياة زيف، والماضي زيف . قطع عليه النادل سيل أفكاره : - رمزي بك .. شيفاز ريفال ، أم أنسستور ؟ :- لا ..لا.. كالعادة ، كالعادة . كان يتناول الجن بالليمون ، جن فيز ، دفعا لرائحة باقي المشروبات الكحولية ، فرائحة المشروب الحادة قد تلفت انتباه ( الكل ) ، بل هي دليل هوية العامة والرعاع ، وهو من الخاص .بل هو رمزي بك ، ورمزي خاص الخاص . رمزي يعني الجمع بين اللذة والفكر . بل بين الأضواء الحمر واللحن الشجي . بل بين الهدوء والصخب . بل بين الله والعبد . بل بين رمزي والعالم . جرع من الكأس دونما تلذذ . عواطفي تضَاد كما الأكوان . أحب الفجر والليل ، والنهار والعتمة . وتدمع عيني ويقسو قلبي . أهفو للنغم وأطرب . وأنتشي وأزقزق . وأجلد وأقذف ، وأستريح . الحيرة مركب يبحر في يم الشوك والقلق . والصراع أنفاس متتابعة ،وشراب أرتويه بلا انقطاع . :- ما بك ؟! لست كعادتك ! ( احتضنت يده ، ومررت أناملها الغضة على صفحتها، وهي تحدجه بنظرات متسائلة شبقة ). :- أبدا .. ( ثم وهو يرد نظرتها بشرود ) أشعر بصداع . :- سلامتك .. سلامتك . معي أسبرين ( وهي تضحك ) لا تقلق .. أجنبي طبعا ! الوطني دواء غسيل . تناول حبتين : - شكرا . ابتسم . أجابته بعينيها ، ونظراتها لا تزال شبقة ، تريده ، وتحتويه، وتطلبه ملحاحة. في يوم ما ، حدث طلابه عن مفهوم العفة ، وعن الفرق بين المذاهب الوضعية ومفهوم الدين ، وعن العادة واستمراريتها وصلتها بالله وبالأشكال الحضارية . فتساءل طلابه وقتها عن الثابت والمتحول في طبيعة الأشياء ، فدهشوا وهو يحدثهم عن الفرق بين الثابت المتحرك والتخلف الثابت . هرش رأسه وأكمل ابتسامته . سرت فاتن . اتسع فمها بحبور ،وقالت له وهي تشد يده برقة ، وتنهضه بإغراء من مجلسه :- تعال نرقص. مشيا معا . الموسيقى توق حالم ينفث شعرا بحنين . ليت الموسيقى قبيلة بدائية تصرخ بجنون . بل ليتها ولولة محمومة صاخبة تثقب أذني دونما رحمة . أغمض عينيه ببلاهة . أراح رأسه على كتفها بحركة سريعة ساذجة ، وضمها إلى صدره بحنان مفتعل . الموسيقى في أذنيه . وصور طلابه تتنامى في عينيه . أحكم القناع .. لا يزال يرقص . الرقص طاقة ، والطاقة شُحَن مكبوتة . كانت أحاديثه لطلابه تدور حول الإرادة ، وقوة الإنسان ، وسعة أفقه، وشموله ، ونبل غاياته ، ومعنى استمرارية وجوده . أنا تعبت .. الأضواء في عينيه .وهو سينهار .. حتما سينهار . فاتن أمامه ثور جامح ، يشتهيه ويطلبه ، ويرغبه بنهم . شعر أنه سيقع على الأرض . تماسك . سمع كلاما وطرف حديث . تذكر (الكل ) وأحلام صباه وطلابه . ترنح . أغمض عينيه . تماسك . تراجع . أطلق ساقيه . وبكى وهو يغادر كعبته وحيداً . 27 / 12 / 1987 م |
الساعة الآن 28 : 02 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية