رد: رسالة إلى صديقة
نصيرة يا صديقتي محمود درويش لم يمت حين أعلنوا نبأ موته سريريا ً أو حين انتهت حياته فيزيائيا ً بل مات في اللحظة التي لم يعد فيها قادرا ً على الإرتواء من نبع الوطن ..
" كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة وجدنا غريبين يوما ً
وكانت سماء الربيع تؤلف نجما ً ونجمة
وكنت أؤلف فقرة حب لعينيك غنيتها "
محمود درويش كان يعني كل حرف .. كم هي صعبة الحياة بعيدا ً عمن يشبهوننا .. بل قولي كم هي مستحيلة !
محمود درويش في أحدى لقاءته الأخيرة سئل أي العواصم أحب إليك ؟
فأجاب بما معناه بعد الوطن كل المدن تتشابه ..
أنا كمحمود جبلت على حب الوطن وأناس الوطن ولكن الوطن أصبح بعيدا ً .. يبعد عني أكثر من ألف أيلول .. لم يعد يجمعني به صيف ولا شتاء ورياح الذكرى التي تحرق ذاكرتي كل ثانية تأكل مني كل ما تبقى لي من الروح التي أستعين بها على هذه الحياة ..
أنا كالطفل الصغير أصبحت أعد خطواتي .. أخشى الإبتعاد عن بيتي .. عن أهلي .. عن أسرتي .. عن أحبتي .. وبنفس الوقت عصا الغربة تطرق أقدامي وتحثني على المسير .. إلى أين وكل الطرق وعرة وأناسها أغراب عني .. حتى أنهم لا يمدون أياديهم للمصافحة ووجوهم تقول الكثير .. تحملني فوق طاقتي من علامات استفهام عن الوطن الجريح ومن دس السم في طعام الأنبياء .. ومفكرتي لم يبق فيها سوى عناوين قليلة لأناس قد رحلوا أو على وشك .. فكيف أمضي وأكمل المشوار ؟
تتشابه الوجوه عليّ في بعض الأحيان أو أحيانا يخيل لي وأنا أرسم بعض الوجوه أن إحداها يشبه قمر بلادي والآخر دافىء كشمسها وثالث سخيّ كمطرها ورابع عفيف وطاهر كأرضها وما أن أصافح هذه الوجوه حتى أكتشف أنني خدعت فالقمر هناك والشمس هناك والمطر هناك والأرض هناك .. حتى أيلول بقي هناك ولم يرحل معي ..
ما أقسى أن تعيشي في هذه الدنيا وحيدة وهذا العالم الممتد من شرقه لغربه ومن شماله لجنويه يضيق بك وبحره لا يمكنك العوم فيه فأمواجه ما تلبث أن تثور عليك وتلفظك إلى شاطىء المنفى من جديد ..
العسل في بلادي له مذاق العسل ومذاقه ما زال على طرف لساني .. أشتاق لقوارير العسل فأمد يدي لألعق منها وما أكثرها حولي وقبل أن ابتلع ريقي أشعر أن المرار طغى على كل شيء ..
نحن قلوبنا كالصخر وإن كانت وجوهنا تكتسيها ملامح الطيبة القروية التي درسنا عنها كثيرا ً في كتب التاريخ ولكنّي لا أعلم لماذا أجهش بالبكاء حين أقف لتحية العلم في أية رقعة من هذا العالم .. أبكي نعم أبكي .. وأنا الآن أبكي وأنا أكتب لك .. ورب الكون يشهد عليّ وعلى حروفي كم هي طاهرة وصادقة ونبيلة ولكنها غريبة .. غريبة .. غريبة ..
قد أعود لتكملة الرسالة بعد أن أجفف دموعي وقد لا أعود .. أرجو المعذرة .. فلا يكفي أننا نعد حقائبنا للسفر فنحن دائما ً نعد حقائب الروح ولكنها لا تصل .. لا تصل ..
|