الكلام المنمق، سهل، وجميل الوقع، لأنه يمتد بكل اتجاه بلا حدود.
لكن (آلية) التنفيذ، أو (أسلوبه) دون تبريرات مسبقة، تحتاج وقفة صادقة مع النفس،
لتبديل (شكله)؛ وتحتاج أيضاً (تعباً) حقيقياً لتغييره، بربطه بالله أولاً ثم ثانياً ثم
عاشراًَ، لئلا تختلط الأوراق بين سهولة هوى النفس و(حلم) التغيير.
ولذلك فلنقل دائماً: ماذا أريد ؟ ولماذا آلم ؟ وما معنى كل القراءات وحكايات التاريخ
إذا لم أستطع تحقيق صورتها المعاشة في ذاتي وفي أسرتي وفي بيئتي ؟
بل ما معنى جزاء (المحنة) أو جزاء (الصبر) أو جزاء (صدق الأمل)، إذا كسَّرتُ
كلَّ أشواقي، مكتفياً بندب الماضي والتغني بجمال أيامه وسهولة عيشه، فأنسى مَنْ
حولي وما حولي ؟!
لماذا لا أقول جازماً: أنا وُلدتُ اليوم، بل اللحظة، وقوتي في (قدرتي) على تغيير
ذاتي، لأنني أستطيع (الفعلَ)، وتنفيذه، وتكوينه؛ متذكراً أن (المهاجرين) تبوؤا
الدرجة العالية من الإيمان، وكان جزاؤهم رفيع رحب المثوبة، لأنهم تركوا خلفهم
كل شيء، وانتهت من نفوسهم خلب بهرجة أرض كل شيء، فما بكوا فوات هناءات
عيشهم، وما بقي معهم سوى يقين رحمات وجه الله، ويقين إصباحات غد في قلوبهم
، مع أنهم (بشرٌ) مثلنا، يألمون ويحزنون ويأسون، ويسودُّ الليل في عزيمة عيونهم؛
فكانت عظمتهم أنهم حوَّلوا الليل إلى عالي نجوم وآفاق جمال فضاءات روح.
لماذا لا نبدأ اللحظة فنحذو حذوهم، ونبدأ كبداياتهم: نعيد بهدوء ترتيب يقين إيماننا،
ليصير إيماننا (فعلاً) ليس إيمان لسان، وإصباحَ شروقِ غدنا فسحة يقين بسعة أمداء
أبعاده ؟!
لقد كتب سيد قطب (وأعدم سنة 1966 م) أفضل كتبه وأشهرها (في ظلال القرآن)
، في ثلاثين جزءًا، جمع فيه خلاصة ثقافاته الفكرية والأدبية وتأملاته القرآنية العميقة وآراءه في واقع العالم الإسلامي خاصة والأوضاع الإنسانية في العالم المعاصر؛ وهو حبيس زنزانته ! كتبه على بالي ورق الصحف في جوْر وحدته وآلام قيد سجنه، متجاوزاً أنانية أحلام ذاته، فخلق من (جوْر وحدته) زلال نهر حياة، ومن عتمة قهر سجنه ساحات أمل.
فهل نقف على طلل داثر الماضي ونملأ الدنيا نحيباً يصير مع تكراره عويلاً، ونقول كنتُ، وكان آبائي، وكانت آمالي ؟ ونسعد بلوْك بهيج فوات الذكريات، فنفقد متعة الحاضر وآمال غد ؟! أم نفتح غافي عزائم الإرادة، وإشراقات يقين الأمل، ونحن نردد: ما العيش لولا فسحة الأمل، وتجاوز (الأنا) لنيل إرضاءات الله ؟!
قد تقول: أعرف ذلك كله، لكن وأنا عاجز، بيدين مشلولتين، وعمر خريفي، وسراب
ماض فقدتُ متعة دوام استمراره، ما جدوى غدي في زنزانة وحدتي ؟
بل هذا الأسى القاتل دون حدود، كيف يكون بصيص شمعتي، ولا شمع معي ؟!
بلى تستطيع، وأنا أستطيع، وكلنا نستطيع، وخلْق الهدف، وتنفيذه، نصوغه (فعلاًً )
معاشاً، وواقع إرادة ملموسة بيقين بركة إيماننا، وبيقين بركة صالح أعمالنا.
وقد أطلت، كعادتي، وأطلت، والشجو دائماً بلا أبعاد.
وكل عام، وجمعنا معك بخير.
20 / 12 / 2014