على عتبة الباب أدرك أن ( الكل ) أصبح خلفه ، فأخرج القناع ذا الألوان المتلألئة ، وأخفى به وجهه .
يمم شطر ( كعبته ) ، وهو يتدارس مع نفسه ألوانا من الأحاديث الفارغة والنكات الماجنة ، التي سيستخدمها حال وصوله ، ليلوي بها الأعناق الممشوقةالمرصعة بالجواهر واللآلئ ، وليبهر بها عيونا أرهقتها أنواع ( الماكياج ) والأصباغ الباريسية .
توقف بعربته أمام إشارة المرور ، فانصرف بسرعة لإلقاء نظرات فاحصة على ربطة عنقه ، فبدت له زؤانة بجانب أنفه ، فغرس طرف أظفره بها محاولا إزالتها .
تنبه للأضواء الملحة خلفه ، تستحثه على السير ، فتابع القيادة بنزق ،وهو مشتت بين النظر إلى المرآة ، ليمحي آثارالزؤانة اللعينة ، وبين شق طريقه نحو( الكعبة ) .
وعندما توقف أمام أسوار ( كعبته ) ، دلف إليه خادم ببزة أنيقة مزركشة ، تذكر الرائي بمرشالات الحروب ، ففتح له باب عربته ، وانحنى بخشوع كأنه يريد التقاط شيئا من الأرض .
أهداه تحية وجيزة تليق بمقامه ، وسلَمه مفاتيح العربة .
وعندما سار في ردهة ( الكعبة ) كانت يده لا تني ترد التحيات المتتابعة : بونسوار رمزي بك .
ولما وصل به المطاف إلى الطابق العاشر ، كانت مجموعة من الشبان في زي ( السموكن ) ، يقفون بوجوه يملؤها البشر،يتبادرون لاستقباله ، ليدخل عالمه الضبابي .
:- تفضل .. استرح على المقعد في صدر البهو .
وضع رجلا على رجل . مرر أصابعه على شعره الفاحم . وبأناقة مرسومة بدقة ، أخرج سيجارته ، وأخذ يدخن باطمئنان ظاهر .
الضحك وشوشة غريبة تنفذ إلى رأسه .والأحاديث الممطوطة ، والعيون الفارغة ، والمكان المبهر ، يذكره ببداية البدء وزيف التمدن .
:- تصوروا ياجماعة .. الأسعار نار، والاستيراد مستحيل ، وكل شئ مفقود تقريبا .
:- العملة بانخفاض ، ولا نكاد نجد في البلد شيئا .
:- يبدو أننا سنصبح شيوعيين .
:- على فكرة .. ما معنى الشيوعية مسيو رمزي ؟
( الابتسامة لا تفارق شفتيها المكتنزتين . وصدرها البارز يذكره بالجوع وبالعري ) .
رد ابتسامتها . تخيلها بقميص وردي شفاف تركض باستمرار ، وهو بحرهائج يحتويها بعينيه النهمتين .
وأجاب :- الشيوعية .. تعني الشيوعية .
ضحك الجميع . تعالت أصوات متفرقة . تذكر أنه في يوم ما كان محاضراً في قسم الفلسفة في الجامعة .
:- الشيوعية كفر .
:- نعم .. لا يؤمنون بالله .
:- ياي ي ي .. سافاج .
:- يا لطيف .. الله يجيرنا .
داخله يتقيأ .
لم أتيت ؟
أتيت !
ماذا أريد ؟ الجنس ؟ الحب ؟ الحداثة ؟ رغبة معرفة كل شئ وأي شئ ؟
المعرفة ؟!
ما فائدة المعرفة ما دامت لا تجدي سلوكا ؟
أنا أبكي . داخلي يتمزق . أنا أبكي ، ورأسي يضج بصخب غريب .
:- اسمعوا . البارحة حلمت أنني صرت أميرة ، .. عندي حشم وناس وجواهر وأشياء نادرة .
فرويد ؟ بل محمد ؟ بل الله ؟ بل أنا ؟ بل العالم .. أواه ماذا أريد ، وكيف أحقق الحلم والتوق ؟
تنحنح . سعل سعلة خفيفة . تذكر ( الكل ) .
لا . سيواصل الزيف المبهج .
أحكم قناعه . أمامه فاتن ، بكنوزها وشعرها الفاحم الطويل .
سيلمس يديها الناعمتين ويحلم .
لا ، لن يحلم . فهي أمامه . وسيلمسها الآن ويداعبها ، وستصبح بين يديه حقيقة مبهجة .
العالم الملون لا يرفضه . ذاته تحبه وتعشقه . وأيام الثقافة الجادة الماضية حلوة ، لكنها مملة بتكرارها .
الجدة عشق ، والعشق نهر يتدفق .. لكن النهر زيف ،والحياة زيف، والماضي زيف .
قطع عليه النادل سيل أفكاره :
- رمزي بك .. شيفاز ريفال ، أم أنسستور ؟
:- لا ..لا.. كالعادة ، كالعادة .
كان يتناول الجن بالليمون ، جن فيز ، دفعا لرائحة باقي المشروبات الكحولية ، فرائحة المشروب الحادة قد تلفت انتباه ( الكل ) ، بل هي دليل هوية العامة والرعاع ، وهو من الخاص .بل هو رمزي بك ، ورمزي خاص الخاص .
رمزي يعني الجمع بين اللذة والفكر . بل بين الأضواء الحمر واللحن الشجي . بل بين الهدوء والصخب . بل بين الله والعبد . بل بين رمزي والعالم .
جرع من الكأس دونما تلذذ .
عواطفي تضَاد كما الأكوان .
أحب الفجر والليل ، والنهار والعتمة . وتدمع عيني ويقسو قلبي .
أهفو للنغم وأطرب . وأنتشي وأزقزق . وأجلد وأقذف ، وأستريح .
الحيرة مركب يبحر في يم الشوك والقلق . والصراع أنفاس متتابعة ،وشراب أرتويه بلا انقطاع .
:- ما بك ؟! لست كعادتك ! ( احتضنت يده ، ومررت أناملها الغضة على صفحتها، وهي تحدجه بنظرات متسائلة شبقة ).
:- أبدا .. ( ثم وهو يرد نظرتها بشرود ) أشعر بصداع .
:- سلامتك .. سلامتك . معي أسبرين ( وهي تضحك ) لا تقلق .. أجنبي طبعا ! الوطني دواء غسيل .
تناول حبتين : - شكرا .
ابتسم . أجابته بعينيها ، ونظراتها لا تزال شبقة ، تريده ، وتحتويه، وتطلبه ملحاحة.
في يوم ما ، حدث طلابه عن مفهوم العفة ، وعن الفرق بين المذاهب الوضعية ومفهوم الدين ، وعن العادة واستمراريتها وصلتها بالله وبالأشكال الحضارية . فتساءل طلابه وقتها عن الثابت والمتحول في طبيعة الأشياء ، فدهشوا وهو يحدثهم عن الفرق بين الثابت المتحرك والتخلف الثابت .
هرش رأسه وأكمل ابتسامته .
سرت فاتن .
اتسع فمها بحبور ،وقالت له وهي تشد يده برقة ، وتنهضه بإغراء من مجلسه :- تعال نرقص.
مشيا معا .
الموسيقى توق حالم ينفث شعرا بحنين .
ليت الموسيقى قبيلة بدائية تصرخ بجنون . بل ليتها ولولة محمومة صاخبة تثقب أذني دونما رحمة .
أغمض عينيه ببلاهة . أراح رأسه على كتفها بحركة سريعة ساذجة ، وضمها إلى صدره بحنان مفتعل .
الموسيقى في أذنيه . وصور طلابه تتنامى في عينيه . أحكم القناع ..
لا يزال يرقص . الرقص طاقة ، والطاقة شُحَن مكبوتة .
كانت أحاديثه لطلابه تدور حول الإرادة ، وقوة الإنسان ، وسعة أفقه، وشموله ، ونبل غاياته ، ومعنى استمرارية وجوده .
أنا تعبت ..
الأضواء في عينيه .وهو سينهار .. حتما سينهار .
فاتن أمامه ثور جامح ، يشتهيه ويطلبه ، ويرغبه بنهم .
شعر أنه سيقع على الأرض .
تماسك .
سمع كلاما وطرف حديث .
تذكر (الكل ) وأحلام صباه وطلابه .
ترنح .
أغمض عينيه .
تماسك .
تراجع .
أطلق ساقيه .
وبكى وهو يغادر كعبته وحيداً .
27 / 12 / 1987 م