مجرد كتاب-مقال غير ساخر
مجرد...كتاب
لبنى ياسين
طفلة كنتُ, تحبو أحلامي الصغيرة أمامي، وأنبطحُ على بطنِ مخيلتي الملونة بألف لون ولون يفوق جمالها بهاء قوس قزح لأقرأ في كتاب، وكثيراً ما تهتُ في عوالم صفحاته لأوزعَ دهشتي على كلماته وفواصله ونقاطه, وتتبعثر أمنياتي الصغيرة في روعة الحرف واللون فأتوه في تلك العوالم السحرية, وأنفصل عن الحدود الضيقة للزمان والمكان بمجرد أن اجتاز ذلك الغلاف الذي لم يكن إلا باباً سحرياً تتفتح وروده في أفقي, لأطير في عالم لا تحده حدود ولا تغلقه أبواب, عالم يضفي على جسدي الصغير روعة جناحين باذخين يحملاني حيث الحلم...حيث لم أرَ ألواناً أزهى ولا فراشات أروع، حيث يعزف حفيف أوراق الشجر وزقزقة العصافير وخرير المياه معزوفة كونية يهتز لها السحاب طرباً, فتشرئب حواسي كلها لتغيب عن كل ما حولها وتصاحب طيور النورس في رحلة أزلية افترش فيها حلمي,وكنت أحياناً أغفل عن رفع الكتاب ودسه بين إخوته في رفه الخشبي المتباهي بوقفته بين مئات الرفوف التي كان يزخر بها بيتنا الصغير, فينبري أبي إلى لومي قائلاً: هذا الكتاب كأحد أولادي...فهل أطيق أن أرى أحدكم وقد أصابه الأذى؟
وكان دماغي الصغير يتمرد على كلماته ويعاتبه سراً في حديث أحادي لا يسمع مفرداته سوى دمعة طافرة من عيْنـَيْ غيرة طفولية على عرش لا أحب أن يشاركني فيه أحد...حيث كنت أفترض أنني الأميرة المتوجة على قلبه...فكيف...كيف يقارنني بكتاب...مجرد كتاب؟؟!!
طالت قامة الخيبة وتكورت تضاريسها وصرت امرأة...وما زالت الطفلة في داخلي تنبطح على بطن أحلامها الصغيرة، وتواصل القراءة بشغف طفولي، لكنني فتحت عيني على حقائق لم يتقن أبي سردها تماماً لي, فالكتاب لم يعد قيماً كما كان أبي يخبرني,وتناثرت أوراقه على حدود الأفق تلهو فيها رياح المادة والجهل وتبعثرت النقاط والحروف على حواف الخيبة الجدباء.
والعقل الذي أخبرني أبي أنه عميق... أعمق من المحيط وأوسع من الأرض..رأيته وقد أصبح مسطحاً كما صينية الكبة التي كانت تصنعها يدي أمي الحبيبة..
والكتب المركونة فوق رفوف الغرفة بانتظار أن يقتحم خلوتها عاشق طال انتظارها لعينيه لتفترسا ما تكدس في قلبها، علتها غبرة اليأس، وسلمت شراعها لموت محقق..
وصار قرص الأغاني المدمج - بما فيه من فيديو كليب ومشاهد تجرح العينين بشذوذها- يتلوى عريه من الأخلاق والقيم على نشاز الزمن المر الذي رفعه عالياً, أهم وأغلى وأكثر تداولاً من كتاب نفث فيه كاتبه من روحه القلقة التي تستبد بسني عمره.
والوقت الذي كان أبي يخبرني بأنه خبز الحياة وملحها، و بأنه أهم هدية من المولى عز وجل، وأننا مطالبين ببعثرته على طموحاتنا وأحلامنا بحكمة وروية لنقطف ثمار النجاح...صار يتكدس فوق جهاز التلفزيون ويهدر دمه على قنوات الأغاني، وفي خضم هذا الازدحام لم يعد هناك بقية لوقت يتكأ بثوانيه على كتاب لأن الكتاب في هذا الزمن العجيب....أصبح موضة قديمة وتهالك غلاف قيمته وتلاشى.
فهل مازلتُ أساوي كتاباً في نظرك يا أبي؟!
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|