الحـــلقــــة العاشرة و الآخيرة
[align=justify]
الغنائم كانت لذيذة .. بنكهة أخذ الحقوق بالقوة .. مع أنها لم تكن من حقنا .. صورت لنا أنفسنا الخبيثة أن ما حجب بالقوة لا يأخذ إلا بالقوة .. يومها رجعت للمنزل منتفخ البطن .. كيف لا و فواكه الصيف كانت تتراقص في معدتي .. معدتي يا معدتي .. صغيرة الحجم لكنها تحملت ما وضع بها .. لكنني في ساعة الطحن و الهضم و التحليل نقلت على جناح السرعة إلى المستشفى .. أجريت لي عملية غسيل بمسحوق "أريل" سريعة .. شاهدت النجوم في الظهيرة .. أنابيب دخلت و أخرجت ما قمت بسرقته .. لو تأخرت نصف ساعة لزرعوا لي معدة حديدية بدل المتوقفة عن العمل .. معدة حديدية ، فكرة جديرة بالدراسة من قبل أصحاب تغيير الأعضاء و زرعها مقابل ملايين الدولارات .
سألتني أمي عن الشيء الذي أكلته .. أجبتها " خبز قديم و بصل من وقت قارون " .. لو قلت لها أنني تناولت تين و تفاح و عنب من وقت "أوباما" لأخبرت أبي فتتحرك العصا "شردودة" العظيمة .
هذه التجربة جعلتني أتراجع عن طيشي .. عن مغامراتي المجنونة .. قررت العودة إلى جادة الصواب .. ليس العيب أنني كنت طائشا ، و لكن العيب إن كنت تماديت في طيشي ، كان الطالب حركاتي هو من أرشدني إلى طريق الهدى .. طريق الالتزام بالأخلاق الحميدة .
رميت بجلدي الطائش من أول كلمة قالها لي " إلى متى و أنت بهذا الحال يا ابني ؟ " .. غابت عني الإجابة .. لأول مرة يتوقف لساني الذي كان كالمقص يقطع كل من يتهجم عليه .. ربما وقاره و لحيته البيضاء هو ما جعلني أتلعثم فصمت .. كان يصدر من ناصيته نور غريب .. كلماته بمثل بلسم .. بمثل مرهم .. بمثل صيدلية روحانية .
عدت إلى المنزل .. اغتسلت .. لبست ثوبي الأبيض الذي أهداني إياه عمي بعد عودته من البقاع المقدسة .. توجهت إلى المسجد الذي لم يكن يبعد كثيرا من المنزل .. أديت صلاة المغرب .. اجتاحت جسدي رعشة ربانية .. كان موعدي مع الولادة من جديد .. سلخت جلد الفتى الطائش و لبست جبة الفتى الملتزم.. ما أجمل أن يكون الإنسان صورة للأخلاق الجميلة .
في المدرسة لاحظني مدرس مادة الرياضيات .. كان اسمه " الأستاذ عبد الناصر " .. قال لي " لقد تغيرت 180 درجة .. لا مشاغبات .. لا تشويش .. لا مضايقات .. لا ضحكات من تحت الطاولة .. تركيز في الدرس و فقط .. ما الذي غيرك هكذا ؟ ..أجبته " الله يفعل ما يريد بعباده " .. و لأنني كنت أمتلك قدرة رهيبة على الاستيعاب الفوري .. استقطبت اهتماماته .
أول عمل قام به معي ، أن حولني من المقاعد الخلفية إلى الأمامية .. استحسنت هذا التغيير .. خاصة أنه كانت الآنسات الحسناوات يقبعن في الأمام .. لا تأخذوا كلامي محمل الجد .. هي أفكار طائشة قديمة و فقط .. كنت أعتبرهن زميلات طيبات و ليس إلا .
بمرور الوقت بدأت نتائجي الدراسية تتحسن .. أصبحت فتى مجتهد في كل شيء .. طبعا إلا الطيش و أعمال الشيطنة ..
حضوري لدروس الإرشاد الديني كان بلا انقطاع .. حفظت الأربعين حديث نبوي .. و تمكنت من ختم نصف القرآن الكريم في ظرف وجيز .
أوقات الفراغ كانت محصورة بين المسجد و مداعبة كرة تنس الطاولة .. تحاشيت متعمدا كل أصدقائي القدامى .. حاولوا في العديد من المرات سحبي إلى عالم الطيش الصغير .. رفضت و كأن الرعاية الربانية كانت ترعاني .
أبي فرح كثيرا بتغييري هذا .. ربما يكون في نفسه قال " الحمد لله الآن ذهب عني وجع الرأس " .. كنت أساعده في كل أعماله .. في الحقل .. في التسوق .. حتى في ربط حماره بعد عودته من واحتنا الصغيرة .
هل تعلمون أن أمي وزعت " الكسرة " عندما أخبرها الطالب "الحركاتي" أنني ختمت نصف القرآن .. كانت تحبني كثيرا و لم تدخر خبز الأيام لتوزعه صدقة تعبيرا عن فرحتها .. كنت كظله الذي لا يفارقه إلا أوقات النوم .. تعلمت منه الكثير في أمور الدين .
من الأشياء التي كانت صعبة في بداية عودتي إلى الطريق الصحيح ، صلاة الفجر ، الجو بارد ، الماء بارد ، و الفراش دافئ ، تخيلوا منظر الماء المثلج و هو ينساب على جلدكم في صباح بارد ، و تذكروا دفئ الفراش و الوسادة .
آه .. تفوقت في كل مراحلي الدراسية .. نلت الجوائز و الإكراميات و التشريفات.. أبي كان يفتخر بي في جلسات الدردشة .. في المقاهي .. حتى في حديثه مع حماره المسكين .. التوفيق كان حليفي بقبس رباني ظهر أمامي في أمسية جميلة .
الآن أنا حاصل على شهادة جامعية عليا .. أعمل في مجال صعب جدا.. جدا .. جدا .
متزوج و أب لطفلة مشاغبة جدا .. جدا.. جدا ..
ربما طيشي تكرر من جديد في ابنتي .. ربما هي وراثة .
تمت على بركة الله .[/align]