* الجزء الأربعون *
كنت أنظر إليه بعينين شلّتهما صدفة الكلمات .. و صدمة السّكون المفتعل لغرض الاستحضار الذّهني .. كلّ ذكرى مؤلمة تحتاج لاستحضار الماضي بكلّ تفاصيله المأساوية حتّى تكتمل الصورة و يحدث الانهيار، ذلك السّكون كان تبريرا منطقيا لفاجعة طفولية كتلك الّتي علّقها فوق غصن الشّجرة .. أرجوحة مسائية لها مزاج إرباكٍ طفولي .. أرجوحة بجسد رجل و رغبة طفل صغير .. قد يكون جمع فيها شتات طفولته المحرومة، ذلك أنّ والدته قُتِلت و هي حبلى بآخر شقيق كان يفترض أن يكون كذلك .. لو لم يفنّده القدر .. ذُبْحت ذات مساء، كانت حلكته خاصة .. ما بين فصلين، كشجار موسمي .. قيل أنّها قُتِلت ممن أحبّها فوق رقم متعجرف، لا تتجاوزه قمّة الحدس الرّقمي، أحبّها بلغة الأرقام الرّياضية .. في وقت لا أحد كان يجيد التهامس بالشّيفرات و لا أحد يتقن حساب المسافات و المعادلات المبهمة الغامضة .. حيث أنّه أضاع حلقة من أصفاره الكثيرة، خنقها بها بمجرّد أن واتته فرصة البحث الجاد عنه .. وجده معلّقا " كعهد قديم " بأنثى .. و النّساء يتشابهن في احتواء الأشياء الضائعة .. أنثى فقدها لأنّه صعد للجبل و ترك عهده الموثّق بين الوديان و الأشجار و صوت الطائرات و القنابل و الرّصاص .. كانت حبيبته بمنطق المشاعر النبيلة و خطيبته بمنطق " الكَلْمَة " بين الرّجال .. و زوجته باسم ثورة التحرير، لأنّ الزّواج له مفهوم خاص في تلك الحقبة التاريخية، تحكمه الدهاليز و الفجوات و الأحراش و الجهاد .. و الغياب الطويل .. ثم استراحة لساعات محروسة، عاد ذات يوم فوجدها قد تزوجت بمنطق " الكَلْمَة " أيضا، بعدما حرّرتها الجبال و القذائف و احتمالات الموت، منه .. عاد بعد سنتين جاب خلالهما كلّ جبال المنطقة و المدن المجاورة و حتّى الحدود، عاد سالما، لكنّه اعتُقِل باسم الخيانة من شيء اسمه هوس الثأر .. اعتقل منها بها .. و تملّكه فجأة طيف الانتقام الشّرس .. وجد عزيز " طفلها الأول " قد ولد، رجلٌ لرجلٍ آخر .. و فاجعة أخرى تنتظر الميلاد النّاسف لرجولته .. لمرتين .. فقرّر استرجاعها لأبدية لا يمكنها قهره، ثم عاد للجبل برغبة مزدوجة في الاستشهاد القريب .. لأجل الوطن و لأجل الخلاص من ذكرى كانت لوحدها قاتلة .. بل موغلة حدّ التعذيب الجسدي المربَك بعالة نفسية .. أوّل لهفة ملغّمة قادته صوب الاستشهاد بلغم أرضي .. دسّ مشنوقا تحت معطف الثورة فصبّ لعناته و تعويذاته القاتلة .. مات بعدها بشهر و نصف .. و في سترته شيئا من دمها حين أخفى خنجرها الملوّث ورحل، تاركا جسدها السّاكن بالموت، قضيةً تمّ الفصل فيها للتّو، ذلك أنّ موتها الضمني كان قبل افتعاله رسميا بزمن .. !! تاركا جسدها ينزف وجعه المكتوم و شعرها العاري المنسدل يطوّق ما بقي من مسافات حسّية بينهما .. أدرك بعد ساعتين من السّير المتواصل أنّ خيطا كثيفا منها لا يزال متشبثا به، لذلك احتفظ بخنجرها و قطرات دمها إلى أن استشهد، كان يعلم أنّها أحبّته و أنّ شقيقها من تولّى تزويجها خوفا من همجية " العسكر ".. مدارةً لكلّ فضيحة قد تحدث باسم الثّورة أيضا .. لكن لا شيء يبرّر الخيانة حتّى الثّورة نفسها ..
حتّى القصائد الملغّمة بحبٍ وحشي .. تلك الّتي تعرفها كلّ الحروب .. كوثيقة تجيز التستّر إرباكا للمقاومة، كلّ أنثى هي زوجة مستباحة بسند وقّعته التّظاهرات العسكرية، تلك الّتي أعلنت ميلاد الغزو اللّعين .
حتّى الوسائط الرّوحية لن تغفر لها، إغواء الفترات الّتي أصبحت خلالها أمًا .. و جسدا مطروحا للنّقاش الثوري فكان أن أرغمته قوانين الاستئثار الرّجالي أن يرضخ لها دون تعقيب .. و الغواية لا تستثمر من الوقت شيئا غير أنّها تصاب بانتكاسات تفقدها سطوتها الأولى و النتيجة .. أنّها قتلتها لذنب الصمت .. و الرّضوخ ..
و الصمت و الرّضوخ .. سببان تاريخيان لاستمرار القهر البشري و الموت و الدّمار .. سببان للقوة و الضعف .. للقوة بالنسبة لمن أجاد استعمالهما انطلاقا من نفوس الآخرين و الضعف لمن حملهما عالة على صدره .. و على فكره .. ذلك أنّ الذكاء إن لم يعبث بتفكير صاحبه فقد حسّه في التّظليل و الإشارة إلى مواطن الانحراف العقلي .. فيصيب الدماغ بشيء من الجمود .. فتقع الكارثة .. كارثة انفصام الذات و الذات الأخرى .. و الشّخصية و الشخصية الأخرى .. و الانتماء و الانتماء الآخر ..
حتّى الموت نفسه .. !! ما كان ليغفر لهما .. أنثى من زمن الحرب .. و أنثى من زمن السّلم المفخّخ باستعباد تام .. أول مهد له القدس الشّريف .. و آخر لحد الهوّة بين الأزمنة الغابرة انطلاقا من أول فجر شهد الانقسام في الذات العربية .. إلى غاية آخر سهم سيوجه باسم الخلاص من القيود الرّوحية ..
لذلك عاش عزيز مشنوقا بماضيه و والده الّذي هاجر بعد الفضيحة و تركه في كفالة جدّته، تلك المرأة الّتي لا تمتّ " للأنثى " بصلة .. قاسية كسيف صنعته توابيت الثورة، كقطعتي حديد كبّلت بهما يدي سجين حمل وزر الثورة لأشهر حتّى مات مسندا رأسه لإحداهما، ذلك الدم الممزوج لا يزال عالقا بهما، معلّقا بحائط أخرس بأحد المتاحف الجزائرية، كخنجر تجرّع كلّ فصائل الدّم حتّى صنع لنفسه جسدا جديدا و حجما جديدا .. أروع ما أورثته إياه تلك المرأة " الثورة " قلادةً من عهدها، جعلته بحكم " الوراثة " رجلا قاسيا بملامح جامدة .. حتّى حين فقد أنثى، مسح عن وجهه رسم الانكسار و الحسرة، حتّى جسده صار صلبا كتمثال حديدي .. ثم تنهّد عن صمت ليقطع التّواصل بين صمتين، كان أقسى رجل قبل أن تحرّره تلك المرأة بحبّها من بعض قسوته .. ثمّ لتجلده عن كلّ الأقساط الّتي استنفذها طيشه كعاشق بضعف المسافات الحسّية .. حتّى وضعت خاتمتها الشّرسة الّتي أزاحت عنه روحه، كأقسى عقاب يقهر سلطان المشاعر .. رغم أنّها " كأنثى خائنة " كانت مجرّد استنطاق لرغبة قديمة أو استكمالا لمخطّط قديم .. أي أنّها فاجعة ختمت بقسوة كلّ الفواجع ..
هو الّذي قال ذات يوم .. و هو يقصد أن يمازحني عن قصيدة كنت أحرّرها في حضوره .. بحضورها كشيء جميل يتخلّل جلسات المساء ..
أرقّ المطر .. ذلك الّذي يُكمّل افتتاحية اعتراف بأنّك تحب ..
أجمل الفصول .. ذلك الّذي تعيشه بين انهمارات كثيرة ...
هو الّذي قالها عن مزاح .. !! فكيف لو قالها عن اشتياق و حنين .. ؟
كان شاعرا بحكم الفطرة الحزينة .. و حكيما بمنطق التريّث في الحكم على الأشياء .. و عالما بمنطق الإسقاطات العلمية و الرّياضية على الأشياء الأدبية الساذجة ..
كان ذكيا بمفهوم الجمود العقلي المحاط بطبيعة صامتة .. و غبيا بمفهوم العلامات الحمراء الّتي كانت تسقط كلّ يوم كإنذارات علمية من الفضاء الخارجي .. حيث أنّه رسم لها نموذجا لهيكل قابل للتثبيت فوق الأرض كمعلم تاريخي .. لكنّه استغنى عنه بجسده يوم شنق نفسه ..
و كان ذكيا جدا حدّ الدهاء .. يوم تحدّى العالم ببوصلة آدمية باتجاه واحد .. صوب الشّرق .. كرمز للاستماتة العربية في سبيل الأصالة و العروبة .. حاملا في كفّه بعضا من أغصان الزّيتون .. و علما ورقيا صغيرا يحمل خارطة الجزائر .. كلّ حدودها المشتعلة حمرة متعمّدة، تحمل حرفا هجائيا للاستدلال على الوطن الأكبر .. !!
كان عزيز " ثأرا " بين رجلين، الأول قتل والدته و دمّره بموتها و الثاني ترك عهدة التّدمير التّالية لامرأة قاسية .. انفصل عنها بعد ذلك ليكمل دراسته بمتاعب مادية و إرهاق نفسي لاحقه حتّى قضى عليه .. حوّلته المآسي إلى عقل متحرّك .. توقّف فجأة كجهاز آلي .. !!
.