البداية
البداية
كان يوما مشهودا ، لن ينساه الوافي أبدا . غصت قاعة الأساتذة بالمدرسين والأطر التربوية والأعوان . وحضر بعض التلاميذ لينشدوا أغنية الوداع وبأيديهم باقات ورد . اشتد اللغط وهو جالس في مقدمة الحاضرين الذين جاءوا لتكريمه في آخر يوم له كمدرس ، قبل أن ينقر المدير على الطاولة العريضة المكسوة بإزار مزركش ويطلب من الجميع الإنصات ليلقي كلمة مقتضبة في حق الوافي ويترك المجال للآخرين .
توالت الكلمات ، وكلها ثناء وتقدير وإشادة به . عبر الكثيرون عن أسفهم لفراقه وأنشد الصغار "وداعا السيد الأستاذ" قبل أن ينهض متحاملا على نفسه ليلقي كلمته تحت عاصفة من التصفيق والهتاف ثم يستلم الهدايا وينصرف بعد عناق شابته الدموع والآهات .
مشاعر متضاربة كانت تتنازعه وهو يغادر المؤسسة التي قضى فيها زهرة شبابه . التفت لأخر مرة إليها قبل أن يركب سيارة صديقه الذي اقترح عليه مساعدته في حمل الهدايا إلى منزله . أحس كأنه انتزع من مكان صار جزءا لا يتجزأ منه .
ولج الوافي البيت فوجد راضية بانتظاره متلهفة لسماع تفاصيل الحفل ، فلم يجد بدا من سرد كل شاذة وفذة . تابعت راضية حديثه باهتمام ثم قالت :
- عليك الآن بوضع برنامج لتنظيم أوقاتك حتى لا تصاب بالملل .. التقاعد شديد الوطء على النفس .
نظر إليها باسما وقال :
- لا تخشي علي .. لن يتغير شيء .
- كيف ؟.. مستحيل .. تقاعدك لن يغير شيئا ؟
- طبعا ..انظري إلى نمط الحياة الذي كنت أتبعه سواء أثناء الدراسة أو خلال العطل .. سأنشغل إما بالكتابة والقراءة ، أو بمشاهدة الكرة والبرامج الثقافية إضافة إلى أوقات الفسحة هنا وهناك ..
بدا وكأنه أفحمها بكلامه فصمتت ، لكنها ظلت تنظر إليه بتوجس ، ولم تملك أن استدركت بنوع من الحدة :
- ومع ذلك عليك أن تتغير ..خالط الناس وأجب دعواتهم لأي حفل و ..
- ليس من السهل على أي إنسان تغيير طباعه بين عشية وضحاها خاصة إذا كان لا يعاني منها شيئا – رد هادئا – سأكون كما كنت دائما .
تنهدت يائسة من إقناعه وانصرفت للرد على مكالمة هاتفية .
عدا حنينه للفصل الدراسي والتلاميذ ، لا شيء أحس به يتغير . استمر على عاداته اليومية وعوض الحصص الدراسية بالتمشي أحيانا عبر الطريق الدائري أو ركوب الحافلة إلى مشارف شاطئ "أمسا" ليقضي بعض الوقت في ساحة الاستراحة المطلة عليه . يرتشف قهوته التي يصحبها معه وبين الفينة والأخرى يأخذ قلما وورقة لا يفارقان جيبه ويسجل خاطرة أو معالم قصة جديدة قبل أن يعود إلى البيت ويستلقي على الأريكة منتشيا براحة تعم فكره وجسده معا .
تتأمله راضية فيعلم أنها مترددة في قول شيء ما .. لكنها تقطع الصمت أخيرا متنهدة :
- عدت باكرا اليوم .. مع أن الجو صحو .
هز كتفيه دون أن يرد فاستطردت قائلة :
- شغل التلفاز .. ألا تريد سماع الأخبار ؟
- وهل بقي هناك أخبار تسر ؟ .. حروب ودماء .. وفوق كل هذا كذب ونفاق .. ثم .. متى كنت أهتم بالأخبار ؟
- على كل حال أنت حر .. كنت أريد أن أخبرك أننا مدعوون لحفل زفاف ابنة جارتنا القديمة بـ"الطرانكات" .. أعرف انك لن تذهب رغم دعوة زوجها لك .
- حسنا .. اعتذري لهما نيابة عني .
يفتح الفيسبوك فيفاجأ بكثرة الفيديوهات التافهة والمستفزة .. نقاشات وسباب وفحش .. يتابع مواضيع تؤرقه فيعلق مبديا رأيه فيها أو يعرض عنها.. يحس بالاشمئزاز كم الصراعات وتبادل الشتائم .. المقاطعة ..حراك الريف والأحكام القاسية .. الحروب والفتن .. احتجاجات الباعة المتجولين عبر شوارع المدينة . يشعر كأنه يعيش في دوامة فيكتفي بنشر خاطرة أو قصة ثم يخلو لنفسه معرضا عن كل مصادر الأخبار لتعمه راحة وسكينة ويغفو على الأريكة أو فوق الكنبة ..أحيانا يستفيق على صوت راضية توقظه من غفوته :
- اليوم ستتغذى عندنا أختي وزوجها .
- مرحبا بهما ..
- أتمنى ألا يتكرر ما حدث في المرة السابقة .. وتبادل الرجل الحديث بدل الصمت فيحس بأن زيارتهما غير مرغوب فيها .
- وما العمل وأنا لا أطيق كثرة الحديث ؟ .. لكل طبائعه ، لكني لن أهمله – ثم مبتسما – ألم تلاحظي في المرة السابقة ونحن في ضيافته كيف أخذ هاتفه هو وأخوه وانشغلا عن بقية الحاضرين ؟
- ومالمانع أن تقتني هاتفا جديدا أنت أيضا ؟ .. حقيقة ، لن تتغير وسيزيدك التقاعد عنادا .
نظر إليها مشدوها وقال :
- وما دخل التقاعد في كل هذا ؟ لم ولن يتغير أي شيء بالنسبة لي .
- بلى .. أنظر .. صرت أكثر انعزالا عن ذي قبل .. نشاطك في القسم عوضته بالقبوع في البيت حتى لفت أنظار الجيران .
شعر بدمه يغلي في عروقه لكنه تمالك نفسه ورد بهدوء :
- وهل صارت هواية الجيران تقصي أخبارنا والتلصص على تحركاتنا ؟ ما لنا ولهم ؟
تتأفف لرده المستفز وتقول :
- حتى أختي لاحظت ذلك .. قالت لي "الله يكون فعونك" في ما يأتي من الأيام .
حين يخلو لنفسه ، يفكر مليا في وضعه ويفكر في الشهور التي سبقت تقاعده وكيف كان ينظر إلى هذه اللحظات بتفاؤل ورضا . ما الذي تغير ؟ ولم كل هذا الاهتمام بحركاته وسكناته ؟
في الأسبوع الذي تلا تقاعده ، وفي أصيل يوم مشمس ـ فوجئ وهو يعود من جولة عبر ضواحي المدينة بزوجته تشير إليه أن يجلس بالمقعد بدل الصالون .
وحين لمحت في عينيه تساؤلا بادرت قائلة بحزم :
- الصالون ليس للاستراحة .. أمامك المقعد و غرفة النوم .. (لا شك أن هذا من تحريض أختها)
- ولم كل هذا ؟ .. هل من جديد طارئ ؟
- لا .. ولكن الجلوس في الصالون يرغمني على ترتيبه من جديد . الناس كلهم يتصرفون هكذا ، فلم تكون أنت استثناء ؟
- يا للا .. لكل واحد حياته وشأنه .. فلم نترك الناس يفرضون علينا عاداتهم ؟ ..
يبدو عليها الانفعال وتنفخ متأففة في غيظ :
- أنت دائما هكذا .. لن تتغير .. وسيزيدك هذا التقاعد نكدا .. اخرج يا أخي .. اندمج مع الناس .. تجول .. ما رأيك في الفدان ؟ ألم تر رونقه وكثرة رواده ؟
- أي فدان تعنين ؟
- فدان كل الناس .. أعرف أنك ستعيد نفس الأسطوانة .. وتتحسر على الفدان القديم وساحة بلاثا بريمو ..
في أغلب الأحيان يعرض عن الجدال ويلزم الصمت ويعاوده السؤال الملح "ما الذي تغير ؟ ولم هذا الحصار الذي يحس به يكاد يخنقه ؟ الجميع متحفز لمراقبته ورصد تحركاته وكأنه حقل تجارب لطبيب نفساني . التقاعد .. كلمة تتردد على كل الشفاه عقب كل حديث أو رأي يصدر منه وكأنه يتفوه به لأول مرة .. أو أنه يقوم بتصرف غريب لمجرد أن أبدى رأيا معارضا أو انتقد تصرفا ..
كان أشد ما يؤرقه ويقلق راحته صياح الباعة المتجولين الذين احكموا الطوق على كل منافذ الطرقات واحتلوا الأرصفة والشوارع المحيطة بالبيت . لكنه يحس بأن ذلك لا يساوي أمام ما يجري من حوله وفي عقر داره . وهاهي الشوارع والأرصفة تتخلص من ذلك الأخطبوط ويعود إليها بعض من هدوئها ورونقها . بعد أن فرض على الباعة الالتزام بالبيع في أسواق القرب . لكن الحصار الثاني يزيد طوقه إحكاما وصار الوافي يشعر بالانقباض كلما عاد من جولته الاعتيادية عبر ضواحي المدينة . بل ويلازمه الانقباض وهو يشرف على المدينة من المقهى الصغير بـ"بوعنان" .
أحيانا ، حين يفكر في ما يحصل عند عودته إلى البيت ، يحس بغليان ويفكر في مواجهة ذلك بالحزم والصرامة ، لكنه يتراجع مقنعا نفسه بأن أحس طريقة لتفادي أي صدام مع راضية هي المسالمة واللين .. فقرر أن يعود ذلك اليوم بهدية إليها . فهي على كل حال تحوي خصالا قل ما توجد متجمعة في أنثى ، ولا ينسى أنها كانت دائما تواسيه وتخفف عنه كلما استشفت من صمته أو حديثه معاناة أو شكوى من بعض المديرين والمسؤولين بالنيابة أو من أولياء التلاميذ .
اشترى سوارا ذهبيا ولفه في ورق خاص بالهدايا ثم عاد منشرح الصدر مترنما :" أي شيء في العيد أهدي إليك ...." ، لكنه فوجئ بتواجد سليفته تجلس جانب أختها وتحدجه بنظرات ثاقبة متحفزة . هي فرصة لإسكات هذه الثرثارة التي تحضر أنفها في كل شيء .
قدم الهدية فلمح في عيني راضية بريقا .. هو مزيج من الدهشة والفرحة .. التفتت إلى الأخرى مبتسمة فانبرت هذه قائلة في ما يشبه الفحيح :
- جميلة حقا .. أرى أنك لا ينقصك الذكاء .. رشوة لكي تتغاضى عن نكدك .
تأملها مليا ونظر إلى زوجته ليجدها مرتبكة .. صمت قليلا ثم ابتسم قائلا :
- هل ارتشيت أنت من زوجك ولو مرة ؟
- الزم حدودك .. ودع عنك زوجي .. فمقامه لن تصله و..
- كفى – صاح بها محتدا – أنت من يجب أن تلزمي حدودك .. هذا كثير .. وإن لم يعجبك قولي فما عليك إلا أن تتجنبي المجيء إلى هنا مرة أخرى .
شدهت المرأتان وتبادلتا النظرات في صمت ، بينما توجه الوافي إلى الصالون واستلقى على الكنبة ودمه يفور في عروقه ، وأغمض عينيه . ثم تناهى إليه صوت متباكي يكاد يتميز غيظا :
- هذا ما كان ينقصني .. أن أهان هنا في بيتك .. غريب أن تستحملي مثل هذا النوع .. سلام .
فتحت الباب وخرجت تاركة الباب مشرعا وكأنها تدعو أختها للحاق بها . أحس بحيرة راضية وتوقع أن تغادر هي أيضا البيت . لكنها همست ببضع كلمات قبل أن توصد الباب وتعود .
- هكذا إذن .. يعني أن ..
استوى جالسا ورفع سبابته محذرا :
- من فضلك .. لا أريد جدالا .. إن عز عليك خروجها بهذه الطريقة فما عليك إلا اللحاق بها .
كانت تلك المرة الأولى التي يحدثها بهذه اللهجة . لبثت مطرقة بضع لحظات ثم لبست جلبابها ولملمت بانفعال بعض حاجياتها وخرجت . فعاد للاستلقاء من جديد .. هل أخطأ في اندفاعه ؟ .. ألم يكن عليه أن يضبط نفسه ويجنح للمسالة كما فعل سابقا ؟ .. هي لا تستحق ذلك طبعا لكنه لم يعد يطيق هذا الوضع .. على كل حال هي لن تتأخر في العودة . وإن تأخرت فسوف يذهب ليراضيها من جديد ويعود بها .. أما الآن فيحس بسكينة تغمره وتسري في أوصاله طمأنينة لم ينعم بها منذ وقت طويل .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|