ما أن اقتربت من السيّارة حتّى هدر صوت محرّكها وفُتِحَ باب السائق الأمامي. ولن أعلن عن نوع العربة حتّى لا أتّهم بالدعاية للدولة المنُتجة. ولكنّكم قادرون على تخمين الدولة المصنّعة من جودة هذا الوحش المريح. جلست في مقعدي كالعادة، انزلق الحزام برفق حول جسدي مطلقاً رائحة عطر نافذة.
- صباح الخير سيّدي. أرجو ان تحدّد وجهتك؟
كان هذا صوت الحاسوب المهذّب.
- كالمعتاد.
قلت والملل يتسلّل الى روحي وخلايا جسدي. عندها أطلق الحاسوب ضحكة مجلجلة وصاح
- روك آند رول .. لنعلن الحرب على الملل.
الجزء الأول من هذه الجملة مثبّت من قِبَلْ الشركة الأمّ. الجزء الثاني لقّمته للحاسوب مع تعديل على الضَحِكْ ليصبح قهقهة شرقية.
لم يتوقّف الحاسوب عن مناجاتي طِوال الطريق، وكان يقرأ أفكاري فيسرع أحياناً حتّى تخال العربة تكاد تطير عن الأرض، ويبطئ أحياناً ليجاري سلحفاء الصحراء الزاحفة الى جانبنا.
تهادت صينية مثبّتة الى جانبي ليظهر فوقها أنواع من الفاكهة والعصائر المختلفة وفاحت رائحة القهوة المطحونة مع الهيل الزكيّ. تناولت بعض الفاكهة ولاحظت بأنّ طعنها أخذ يتغيّر، ليس شهيّاً كما كنت أتوقّع.
سرعان ما أخذ صوت المحرّك يعربد مزعجاً، شعرت بأنّه أصيب بالخناق وأخذ يسعل كعجوزٍ مدخّن تجاوز السبعين من العمر. لم أكن قادراً على فتح عينيّ، وأدركت بأنّ الطعم الغريب الذي أحسسته في فمي هو قطرات الدم المنبجسة من لثّتي وباطن فمي.
أخذت أعود الى وعيي تدريجياً وببطء.
- لماذا أشعر بأنّ العربة تهزّ وسطها كراقصات الشرق المحترفات؟
- العربة تسير على ثلاث عجلات، في مقدّمتها عجلة واحدة ولا أظنّ أنّ هناك مثيل لها في هذه البلاد لقدمها. هذه عربة أثريّة. تبعت تلك الكلمات ضحكة مخنوقة تخللها السعال.
- عفواً .. ما الذي أفعله في هذه العربة؟ ولماذا لا أقدر على فتح عينيّ؟
- آه .. مجرّد قذى. لا بدّ من مسح عينيك بالقطن والماء الساخن. حالتك صعبة يا عزيزي وعسى أن نصل الحدود باكراً.
- من انا يا جماعة. أذكر بأنّي كنت إنساناً يوماً ما؟ هل نحن الآن متواجدون على الكرة الأرضية؟ ظننت بأنّ الزمن يعود الى الخلف. أين الفواكه والعصائر؟ ولماذا لم أعد أسمع لسان حال السيارة يقهقه ويضحك ويحيّي ويناجي؟
- لا حول ولا قوّة إلا بالله! استيقظ يا رجل .. يكفي أحلام يقظة. لم نصل الجنّة بعد؟.
- الجنّة؟
- نعم .. الحدود يا رجل. ما زلنا في القطاع، لقد خابرت الطبيب، وسوف يستقبلنا فور الوصول الى العريش. اللهم ثبّت العقل والدين. أبو عبد الله .. أبو عبد الله. لقد غاب عن الوعي مجدّداً.
- دعه يا محمود .. دعه يحلم بالجنّة.