بين القداسة المدعاة والأنا المتضخمة: أين يكمن شيطاننا؟ د. رجاء بنحيدا
بين القداسة المدعاة والأنا المتضخمة: أين يكمن شيطاننا؟
في هذا العالم المتقلب، يصدح كل منا بنشيد البراءة، يرسم لنفسه هالة من نور، ويتبنى صفة الملائكية وكأنها حقه الأزلي، ننظر إلى المرآة فنرى انعكاسا مثاليا، خاليا من الشوائب، طاهرا من أي دنس؟ كلماتنا منمقة، أفعالنا محسوبة، ونظراتنا تخفي خلفها بحرا من الادعاء.
"أنا لستُ مخطئًا"، "أنا لم أقصد"، "الظروف أجبرتني"، هكذا نبرر لأنفسنا وللآخرين، نبني جدرانا سميكة من التبريرات الواهية لتحجب رؤية ذواتنا الحقيقية، نتقن لعبة إلقاء اللوم، نبحث عن كبش فداء نعلق عليه أخطاءنا ونقائصنا، وكأننا بذلك نتطهر ونتسامى.
ولكن، بين هذا الزحام من الملائكة المدعين، أين يختبئ الشياطين؟ هل هم كائنات خرافيّة ذات قرون وأنياب، تختبئ في الظلام الدامس؟ أم أنهم يتجسدون في هيئات بشرية، يرتدون ثياب الحملان، ويتلون آيات القداسة؟
ربما الشياطين ليسوا سوى تلك الأصوات الخافتة التي تهمس في أعماقنا، تلك النزعات المظلمة التي نكبتها وندعي جهلها، ربما هم تلك اللحظات التي نختار فيها الصمت عن الحق، أو نتغاضى عن الظلم، أو نسعى لتحقيق مصالحنا على حساب الآخرين.
الشيطان قد يكون هو الأنا المتضخمة التي تعمينا عن رؤية عيوبنا، هو الحسد الذي ينخر قلوبنا عندما نرى نجاح الآخرين، هو الكذب الذي نلوّن به حقائقنا، هو الغضب الذي يفقدنا صوابنا، هو التعصب الذي يقودنا إلى كراهية المختلف.
كلما ادعينا الكمال، كلما بالغنا في تبرئة أنفسنا، كلما أمعنا في إدانة الآخرين، ربما كنا بذلك نمنح الشياطين قوة أكبر، نسمح لهم بالتغلغل في دواخلنا أكثر فأكثر.
فلنتوقف لحظة عن هذا الادعاء الزائف، لنتجرد من أقنعة الملائكية المصطنعة، ولننظر بصدق إلى ذواتنا، ربما حينها، في تلك اللحظة الصادقة مع النفس، سنكتشف أن الشياطين ليسوا كائنات خارجية، بل هم جزء مظلم يسكن في أعماق كل واحد منا، ينتظر فقط أن نعترف بوجوده، وأن نسعى جاهدين لتهذيبه والسيطرة عليه.
وحده الاعتراف بالظل الكامن فينا هو بداية النور الحقيقي، فوحده من يرى عتمته يستطيع أن يسعى بصدق نحو النور.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|