حسن الحاجبي
|
إكس بن إكس
ليس بعد الموت مصيبة , هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم , لكن مصائب قوم عند قوم فوائد , حتى أن للموت تجارته الرائجة وعصاباته المنظمة التي لا يمكن أن تخطر لكم على بال .
لطلالما كنت أعيب على خالي ــ رحمه الله ــ خروجه من البيت وتجواله في المدينة دون أن يحمل معه بطاقته الثبوتية , فكان يجيب ضاحكا : أنا رجل في السبعين , لا خوف مني ولا خوف علي . لولا أنه خرج يوما من مدينته بقصد السفر لزيارتي حيث كنت أعمل وقتئذ على طريق العاصمة الرباط . وعند وصوله إلى مدينة مكناس , إنتابته أزمة قلبية مفاجئة لم تمهله , فلم يتمكن حتى من التعريف بنفسه , أو الإرشاد على اسم دوائه .
نقلته سيارة الإسعاف إلى المستشفى الرئيسي للمدينة , لكنه كان جثة هامدة حين دخل مصالح المستعجلات . كان خالي قد أخبر والدتي ــ التي تعيش معي ــ بقدومه , فبقينا ننتظر وصوله , ثم بدأت الوساوس تساورنا بعد مرور ثلاثة أيام على الموعد المحدد وانقطاع الإتصال به . رافقني صديق لي إلى مدينة مكناس لأجل البحث والتحري , فكانت البداية من مديرية الأمن , وبعد مراجعة السجلات أخبرونا بتسجيل حالة أزمة قلبية حادة بمحطة الحافلات قبل ثلاثة أيام .
إنتقلنا على الفور إلى المستشفى لتبدأ رحلة العذاب . كان علينا دفع مبلغ مائة درهم لمجرد السؤال ومعاينة السجلات الخاصة بالمستعجلات , دون الوصول إلى نتيجة . في هذا المستشفى مجرد طلب نصيحة يستوجب مائة درهم , أما طلب خدمة فيحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير , لذلك استدار إلي صديقي قائلا فيما يشبه التحذير : إسمع , إريدك أن تنسى مثاليتك , وأن تنسى أن الرشوة حرام , وتدعني أتولى هذا الأمر , وإلا فيمكنك الخروج وانتظاري في البهو إن كنت لاتستطيع صبرا .
فوضت أمري إلى الله ووعدت صاحبي بالصبر والسكوت على المنكر , ثم اتجهنا صوب مستودع الأموات . أخرج صاحبي ورقة من فئة مائة درهم , دسها في يد ممرض يجلس إلى مكتب عند بوابة المستودع . بالكاد رفع الممرض عينيه من تحت نظارته , وأدار لنا سجل الأموات لنبحث فيه عن الأسماء الواردة منذ ثلاثة أيام . إستعرضنا الأسماء مرات ومرات , لولا أن الممرض اللئيم قال إنه يمكننا أن ندخل بأنفسنا إلى المستودع لنتحقق , مقابل وجبة غذاء , لأنه مازال لم يتناول غذاءه بعد .
فهم صديقي الإشارة , فهرع نحو المقصف وجاءه بوجبة كاملة , ومعها مشروب وعلبة سجائر , ليفتح لنا الممرض بوابة الموت الرهيب .
دلفنا إلى الداخل نتفحص الجثث , ورائحة الموت تملأ المكان , كانت الثلاجات ملأى عن آخرها , والباقي ملقى على الأرض كما لو أن الأمر يتعلق بساحة معركة . وعند زاوية شبه مظلمة , تبينت خالي منذ النظرة الأولى . كان رحمه الله مكبوبا على وجهه , حافي القدمين وقد ربطت إلى أصبع قدمه اليسرى بطاقة صفراء مكتوب عليها : " إكس بن إكس " أي مجهول الهوية .
إنتابني شعور بالقهر والإحباط , وانحبست الدموع في مقلتي وأنا أرى رجلا عاش عيشة العز والرفاه يموت بهذا الشكل المهين . سرقوا حذاءه , ونزعوا عنه خاتمه الذهبي وساعته اليدوية , واستولوا على حافظة نقوده , ثم كتبوا على ورقة في أصبع قدمه أنه مجهول الهوية .
... وبدأ مشوار جديد من العذاب , كان علي أن أثبت هوية خالي قبل أن يسمحوا لي باستلام الجثمان . دفعت للممرضين , دفعت للأدارة , دفعت للطبيب المشرف , دفعت حتى للحراس , وسافرت أكثر من خمس مرات كي أجلب وثاق كانوا يطلبونها في كل مرة . وبعد مرور يومين كاملين , حصلت أخيرا على إذن بالإستلام .
إفتح محفظة نقودك ياسي حسن , وسيكون كل شيءعلى مايرام , هكذا قال سائق سيارة نقل الأموات بعد أن أخذ مبلغا خياليا لنقل المرحوم لمسافة لا تتعدى الخمسين كيلومترا , ولم يدر بخلدي أن الميت لا يمكنك تسلمه إلا بعد أن يقوموا بغسله وتكفينه , وأن ثمن دلو من الماء الساخن هو مائة درهم , وثمن الكفن والحنوط أربعمائة درهم , وثمن الفقيه الذي سيغسل الميت ثلاثمائة درهم , وما عليك سوى أن تدفع , لأن كل شيئ جاهز ومتوفر في الحين , وعصابة الموت متربصة بك , غير عابئة بآلامك ولا بأحزانك .
إنطلقت أخيرا سيارة نقل الأموات تحمل النعش , لكن كان علينا التوقف عند مقر ولاية الأمن للحصول على ترخيص بالمرور . دفعت مرة أخرى للموظف الذي وضع خاتم الولاية على الترخيص , ودفعت لموظف جاء لمعاينة الصندوق وختمه بالشمع الأحمر . دفعت لشرطة المرور عند مخرج المدينة . دفعت لرجال الدرك المتربصين على الطريق . دفعت لرجل حفر القبر وأهال التراب . دفعت لفقهاء قرأوا سورة يسن عند رأس الفقيد ودعوا له بدخول الجنة . دفعت فاتورة المأتم وثمن الذبيحة وخيمة العزاء . دفعت للطباخة التي أعدت الطعام , وللنادلين الذين خدما المعزين .
وحدهم أولادي وأمي وزوجتي لم أدفع لهم , لأنهم كانوا يبكون في صدق وحرارة .
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|