مديرة وصاحبة مدرسة أطفال / أمينة سر الموسوعة الفلسطينية (رئيسة مجلس الحكماء ) رئيسة القسم الفلسطيني
|
آه .. من يرثي بركاناً؟ رثاء محمود درويش لغسان كنفاني
آه ... من يرثي بركاناً ؟
رثاء محمود درويش لغسان كنفاني
اكتملت رؤياك ,ولن يكتمل جسدك تبقى شظايا منه ضائعة في الريح . وعلى سطوح منازل الجيران , وفي ملفات التحقيق . ولم يكتمل حضورنا نحن الأحياء, طبقا لكل الوثائق نحن الأحياء مجازاً. وأنت الميت , طبقا لكل الوثائق ,أنت الميت مجازاً , نحزن من أجلك ؟ لا , نبكي من أجلك ؟ لا .
أخرجتنا من صف المشاهدين دفعة واحدة وصرنا نتشوف الفعل , ولا نفعل.
أعطيتنا القدرة على الحزن وعلى الحقد وعلى الانتساب . وكنا نتعاطى الحزن بالأقراص , ونتعاطى الحقد بالحقن , ونتعاطى الانتساب بالوراثة .
مرة واحدة أعطيتنا القدرة على الاقتراب من أنفسنا , وعلى الغربة في الدخول إلى جلودنا التي خرجنا منها دون أن ندري , الآن ندري , حين خرجت منا . ومن أنت يا غسان كنفاني !
حملناك في كيس ووضعناك في جنازة بمصاحبة الأناشيد الرديئة, تماما كما حملنا الوطن في كيس , ووضعناه في جنازة لم تنته حتى الآن , وبمصاحبة الأناشيد الرديئة ... وكم يشبهك الوطن , وكم تشبه الوطن , والموت دائما رفيق الجمال , جميل أنت في الموت يا غسان .
بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر , لقد انتحر الموت فيك . انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة . اكتمل الآن بك , واكتملت له . ونحن حملناكم . أنت والوطن والموت , حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم . فالكل قابل للرثاء , وكنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي.
أيها الفلسطينيون ... احذروا الموت الطبيعي هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني .
ويا أيها الكتاب ... ارفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد.. هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن. لا يكون الفلسطيني فلسطينيا إلا في حضرة الموت .
قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجلوا ويعودوا من رحلتهم لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل . لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن .... أهكذا ؟ نعم هكذا .
حين تزول الفوارق بين الأجساد وبين الأوطان .. ويصير الكل في كيس واحد, تنزل العودة من الأناشيد الرديئة إلى البندقية الجيدة , ولا تكون الحياة مجازية . وهكذا . تكون الهجرة شكلا محورا للعودة .
أمجد موتك؟ لا .... ألعن حياتك ؟ لا... إني امجد السخرية التي كنت تواجه بها الحياة , نادر في تحايلك على الحياة , تنزفها لا حبا لها بل بحثا عنها . من خرج من عكا يوما ولم يعد , لا يعامل الحياة إلا بسخرية .
إني أمجد البسمة الكاذبة التي كنت تقابل بها الأشياء . وهي باطلة كلها . فمن عرف فلسطين تاب عن السعادة . وفلسطين التحمت بخلاياك , تبتسم لسواها كالعاشق المخدوع الذي يتحايل على الخيانة , ويحاول الهرب من قلبه .
لم تكن رجلا... كنت إنسانية . ولم تحمل صليبا , كمتظاهر يحمل لافتة وراية , صليبك لا يراه أحد , حتى أنت لا تراه . لأنه يأتيك من الداخل , لأنه يسكنك , كما يسكن البرق المفاجأة , وكما يسكن الكون الديمومة .
كان الصليب ينتسب إليك , وكان الوطن ينتسب إليك , وهما البديلان الوحيدان, ليس جمال الموت ما يجعلك جميلا , فبأي حق يستعيرك, ويتركنا بلا ندم .
ليس جمال الموت, لكنه حقيقة المأساة في لحم إنسان حقيقي وفنان حقيقي . الصدق اغتراب , فلماذا كنت مغتربا إلى هذا الحد, باعوا الضحية فاشتكت , فاجتمع الغزاة والطغاة على إخماد شكواها لأن سلامتهم واحدة . فلماذا ولدت في عكا , لماذا ارتكبت هذا الذنب ؟
جرب يا غسان واخرج من اسمها . ستخدعك الحياة من جديد, وتموت. تضيق بها ذرعا , ومن فرط العشق والغيرة تكرهها . ولكن ماذا تكون من دونها ! فلماذا ولدت في فلسطين ؟ لماذا ارتكبت هذا الذنب ؟
جرب يا غسان . جرب أن تذهب في هواها إلى آخر الشوط؟ ستخدعك الحياة من جديد . وتموت من جديد .
الابتعاد عنها قاتل ... والاقتراب منها قاتل , وبين الاقتراب منها والابتعاد عنها يتأرجح جسمك . الارتفاع يوازي الضياع . والنزول يحاذي الأفول .
وهذه هي المأساة . وهذه هي قدرية العشق الفلسطيني . لأن المعشوقة قاتلة بجمالها ونسيانها وقدرتها على الخيانة , تكتبها, ترسمها, تغنيها, تغمرها, وهي تنام بين أذرعة الآخرين . وحين تقول : تعبت , تحاصرك كالجلد . ولعلك كنت تهددها , ولعلك كنت تؤنبها , حين أنام فيها سأرميها في البحر كقشرة برتقالة . لا تعطيك هذه الفرصة , لا تعطيك , أكثر من عشرين عاما , وأنت تنتظر هذه الفرصة , لا تعطيك .
ويا غسان كنفاني للمناسبة , قل لي من أنت ؟
غامض , وعاجز عن الإجابة , لأنك فلسطيني حقيقي . كلما اشتد وضوحك اشتد غموضك . تنسى نفسك في البحث عن الوطن . وينساك الوطن في بحثك عن نفسك , ثم تلتقيان يومين في اليوم . في اليوم الواحد تلتقيان أمس وتلتقيان غدا. وما الفرق بينكما ... هو الفارق بين ظل الشجرة في الدم وبين ظل الشجرة في الماء .
فلسطيني حتى أطراف أصابعك , فلسطيني حتى الحماقة, وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك. تسلم على السائح, فتصيبه عدوى فلسطين . تقبل امرأة فتصير مريم المجدلية . تعانق طفلا, فيستكمل طفولته في إحدى قصصك . وهذا هو مجدك إذا كان المجد يعنيك . من أنت؟ غامض وعاجز عن الإجابة .
فكلما اشتد وضوحك اشتد غموضك , لم تمتشق قلما ... لم تمتشق بندقية .. لم تمتشق إلا دمك . كان دمك مكشوفا من قبل أن يسفك . ومن رآك رأى دمك . هو الوحيد الواضح. الوحيد الحقيقي والوحيد العربي .
دق سقف الهجرة وعاد كالمطر الذي يهطل فجأة من سماء النحاس على أرض القصدير . فهل سمعنا رنينه ؟
هل سمعنا صداه ؟ سمعنا يا غسان .
فكيف نثأر له ؟ وحين تقول فلسطيني , فماذا نعني ؟
هل فكرنا في هذا السؤال بمثل هذا الخجل من قبل؟ الآن نعرف :
أن تكون فلسطينيا معناه أن تعتاد الموت , أن تتعامل مع الموت.. أن تقدم طلب انتساب إلى دم غسان كنفاني .
ليست أشلاؤك قطعاً من اللحم المتطاير المحترق , هي عكا وحيفا والقدس وطبريا ويافا , طوبى للجسد الذي يتناثر مدناً. ولن يكون فلسطينيا من لا يضم لحمه من أجل التئام الأشلاء من الريح, وسطوح منازل الجيران وملفات التحقيق .
ماذا نفعل .... ماذا نفعل من أجلك يا غسان ؟
هكذا تساءلنا ونسينا أن نتساءل عما نفعل من أجل ما ومن تبقى منا. وكنا نرد: نحرق مكاتبنا ونمضي... نمضي إلى أين ؟
نمضي إليك.. إلى الثورة , نخرجها من رحم الفكرة والأحلام والأناشيد , لأن دمك قد خرج . الذاكرة والخارطة والأغاني لا تحول المنفى إلى وطن . ولم يبق لنا غير الانتماء إلى الثورة وأخطائها .
لا يكون العشق عشقا إلا إذا بلغ حد الخطأ. فلنذهب إل الخطأ جميعا, لأنه فاتحة الصواب , ولنملأ الأطر التي تركها غسان حتى لا يكون وحيدا ولا يتيما ولا حزينا .
لقد تحول من شكل إلى رؤيا . فلندخل مرحلة التحول.
وطوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة , لا تكفيه رصاصة .
نسفوك, كما ينسفون جبهة وقاعدة وجبلا وعاصمة , وحاربوك كما يحاربون جيشاً .
لأنك اكبر من جبهة وعاصمة .
ولأنك أعظم من جيش ..
لأنك رمز , وحضارة جرح ..
الرمز قاوم عشرين عاما ولم ينهزم, ولم نر جيشا من جيوشنا قاوم عشرين ساعة وما انهزم , ولماذا أنت .. لماذا أنت ؟
لأن الوطن فيك صيرورة مستمرة وتحول دائم, من سواد الخيمة حتى سواد النابالم , ومن التشرد حتى المقاومة .
حقيقي وشفاف ... وابتكار لأنها منحوتة مياهها من دماء مهاجرة . خريرها دائما محترق, يتمازج فيها ظل الزيتون الراحل بين الذاكرة والتراب .
لو وضعوك في الجنة أو جهنم , لأشغلت سكانها بقضية فلسطين, وجدان وعاطفة ووسامة , وعكا تنتمي إليك ولأن غيابك يحمل الوطن أبعد, فعندما ينسفونك , ينسفون خطى تتقدم . هكذا يسحبون .
ويا غسان , حدد شكلك من طول الرحيل سقطت ذنوبي , ومن بعد الوطن اقتربت من الحقيقة , وشكلي ضائع فيكم , وما اسمك الآن .
لاشيء , لاشيء, تبعثر اسمي مع أشلائي , حين تعثرون عل أشلائي , تعثرون عل اسمي ولن تجدوها ما لم تجدوا وطني , وأين وطنه ؟
لا تقولوا أنه محتل , هو ضائع فينا... ضائع فينا.. فمن يخرج الوطن منا كي نراه ؟ منا نبدأ.
فكيف نبدأ ؟
ومت نبدأ؟
اسألوا هذا السؤال من جديد , واذهبوا إلى اسم غسان كنفاني واسرقوه , أطلقوا اسمه عل أي شيء وعل كل شيء .
أطلقوا اسمه عليكم لكي تصيروا ناسا يا عرب واقتربوا من أنفسكم , من حقيقتكم , تقتربوا من الوطن .
من كتاب غسان كنفاني (شهادات وصور ) إعداد الحكم النعيمي
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|