الرصاص
[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/10.gif');border:4px solid green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]
كانت الأرض تسجل شيئاً من حضورها الساحر في عينيه.. رأى كيف يكون الأولاد في زمن الخصب شجراً وزهراً ومواويل عشق.. كان يقبض بأصابعه الخشنة على يد ابنته التي ما تجاوزت العاشرة من العمر.. وكانت بين الحين والحين تصرخ مأخوذة “بابا.. بابا.. أرأيت؟؟” ويهزّ رأسه دون القدرة على إرسال الكلمات.. اللوحة المرتسمة أكبر منه.. وكذا الألوان التي انبثقت في كل شبر.. لمرات التقت نظراته بنظرات ابنته.. ولمرات أيضاً شعر بأنها تحمل في عينيها وميضاً خارقاً يستطيع أن يشكل أكثر من بركان، وهو ما جعله خائفاً إلى هذا الحد أو ذاك.. فالبنت ذات الضفيرة القصيرة، والابتسامة الحلوة المشرقة يمكن أن تسحب يدها من يده في أية لحظة لتنفلت في واحد من شوارع المخيم.. وعندها يعلم الله ما سيحدث لها..؟؟ أسرع الخطا.. شدّ أكثر على يدها.. انطلقت آهة من بين الشفتين.. قال “علينا أن نصل إلى البيت.. الجو خانق يا رهام” قالت البنت وهي تهز يد أبيها “انظر، انظر، بابا هؤلاء الأطفال يقلبون الدنيا.. انظر كيف يركضون..” لكنّه بدل أن ينظر ضمها إلى صدره، حملها وركض ليختبئ في أحد المداخل بعد أن انطلق الرصاص فجأة وسقط أحد الأطفال.. الخطوات اشتعلت في الشارع.. الأبواب أشرعت.. الشبابيك حملت الرؤوس.. ركض الأطفال..حملوا صاحبهم الذي سقط وانطلقوا.. صيحات رهام ملأت صدره بضغط غريب.. أرادت أن تفلت من بين يديه.. أن تقفز إلى هناك.. لكن كيف له أن يتركها؟؟ كان متشنجاً خائفاً.. فرهام بالنسبة له كل العالم.. ولا يمكن أن يدعها هكذا لقمة سائغة لرصاص هؤلاء الأنذال.. مهما حدث لن يسمح لها بأن تدخل مثل هذا المعترك.. لذلك حاول دائماً أن يكون بعيداً عن الأحداث.. وكل ما فعله خلال السنوات الماضية ما تجاوز بأية حال مراقبة الآخرين وهم يقاتلون الاحتلال.. وللحقيقة فقد اشتهى أن يحمل حجراً ليقذفه في وجه الاحتلال.. لكن خوفه على رهام جعله أسير تردده وانكماشه..
مسحت البنت بالأصابع الطرية عينيها.. وإلى جانب الوالد الذي وسع خطاه مشت.. كانت تتمنى أن تكون مع بقية الأولاد.. لكن كيف وهي التي لا يسمح لها بالخروج وحدها للحظات.. أمها كانت تصرخ كلما رأتها تطل من فتحة الباب.. حتى طريق المدرسة تحوّل إلى خط مرسوم بلون واحد، الأم تأخذها صباحاً، والوالد يرجعها عند الظهر.. ودائماً تقع يدها الصغيرة في قبضة تقفل على أصابعها كل الاتجاهات.. بقيت وحيدة تحلم.. وحيدة ترسم الألوان الزاهية الجميلة.. أخذت في مثل هذه الأحلام، تطارد جنود الاحتلال، تحمل الحجارة، تركض في شوارع المخيم.. يطير فستانها وكأنه يحمل جناحين.. تضحك.. ترقص مع الأولاد رقصة النصر.. تصفق.. وحين تفتح عينيها تجد نفسها وحيدة كما كانت.. قالت: “بابا اترك يدي” صاح: “وصلنا يا رهام.. بعد قليل نكون في البيت.. أمك بانتظارك” قالت “أريد أن ألعب مع الأولاد” قال بخوف “.. لا يا رهام.. أنت لا تعرفين الاحتلال.. لا.. لا يا رهام”.. بكت البنت وهي ترى الشارع ينقلب من جديد.. حارت خطا الوالد وارتبكت.. زاغت عينيه وهو ينظر في كل الاتجاهات.. كأنما انفتح الرصاص سيلاً.. ولا يدري كيف ارتعشت يدها في يده.. رأسها الصغير مال.. بركة الدم ملأت وجهها.. بكل رعب الدنيا احتواها وركض.. لهاثه دقات ساعة أخذت تعتصر الزمن.. باب البيت أمام عينيه.. قالت “بابا أريد حجراً” صاح “يا رهام قومي وخذي كل حجارة الوطن.. اضربيهم يا رهام”.. صاحت “أريد حجراً.. حجراً واحداً” انحنى.. حمل حجرين.. وضع بين أصابعها واحداً، والآخر بين أصابعه.. ضحكت.. لأول مرة تشعر بدفء الحجارة.. صاحت “أريد أن أقف” تركها.. تنفست بصعوبة.. الأم ركضت.. الشارع اشتد نبضه.. رفعت يدها.. طار الحجر.. ضحكت.. انحنت لتأخذ حجراً آخر.. لكن الجسد الصغير اندلق.. صاح الأب.. صاحت الأم.. صاح المخيم….
[/ALIGN][/CELL][/TABLE1][/ALIGN]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|