[align=justify]وسط ركام المخيّم، وفي جنح الظلام، وقف بين مجموعة من المقاتلين، وراح يطلق النار بغزارة.. شاهد العدو يتقدم بدباباته ومصفحاته وسط إطلاق نار كثيف من طائرات الأباتشي التي تحلّق في الجو.. حدّث نفسه "إذا كان لا بدّ من الموت، فليكن، ليكن الموت وأنا قابض على سلاحي وعيناي مفتوحتان، أدفع الظلم عن أبناء المخيم، وأرد الغاصبين".
توالت الطلقات.. انطلقت الصواريخ.. تهدّمت البيوت على من فيها.. أكوام من بقايا السيارات، أكوام من الجثث، أنهار من الدم.. "ليكن الموت.. الشهادة أفضل من الاحتلال والذل".. أطلق النار بغزارة.. لم ترمش عينه، لم يرتعش.. توالت طلقات الجنود إلى صدور المقاتلين.. حصدت معظمهم.. أفرغ جنود الأعداء رشاشاتهم في الحجر والشجر والبشر.. انطلقت الآهات وامتزجت بكلمات الشهادة، وصرخات الاستغاثة.. ضاعت الكلمات، وتوقفت في الحناجر وسط دوي المعركة وأزيز الرصاص.. ارتسمت تكبيرة على شفاههم وتعانقت لغة الصمت الرهيب بالطلقات القاتلة.. ارتعبت الطيور وطارت من أوكارها التي بنتها على الأشجار المحيطة بالمخيم.. أسقط طائر حبة القمح من منقاره، ترك فراخه وحلّق بعيداً بفزع تائهاً في السماء.
تقدمت دبابة وأطلقت نيران رشاشاتها نحو المجموعة المدافعة عن المخيم مرة ثانية.. القصف والقتل والتقتيل لم يتوقف منذ أربعة أيام متتالية.. تقدّم جنود المشاة وأطلقوا نيران رشاشاتهم على الجثث الملقاة وسط أنقاض البيوت بأيدٍ مرتعشة، وتواروا وسط الظلام..
من بين مجموعته التي حصدهم الرصاص، أخطأت الرصاصات جسده.. أذهله حضور الموت.. اجتاح الموت مجموعته دفعة واحدة في رمشة عين.. أسكت الموت طلقاتهم، وحده بقي في المعركة بلا ذخيرة.. شاهد الجنود المدججين بدباباتهم يتقدمون، يزرعون الموت والدمار ويطلقون النار على كل شيء يتحرك أو لا يتحرك.. ارتمى في حركة تلقائية بين رفاقه وتظاهر بالموت.. تموّجت اللحظات الرهيبة.. التمعت أحاسيسه وكتم أنفاسه وجنود المشاة يتقدمون.. داست مجنـزرة جثتين واندفعت نحو جدار قريب، أخفت معالم البناء وابتعدت عن ناظريه.. وحش حديدي مصفح يطحن البشر والقلاع والأشجار، تنّين يزفر ويمحو الوجود من الذاكرة.. ركله حذاء ثقيل بغطرسته، تململ وأرخى عضلات جسده ممتثلاً لركلة الحذاء.. توارت أقدام الجنود وابتعدت مرتعشة.. فتح عينيه ولاحقت نظراته أحذيتهم.. تناثرت الجثث بين البيوت المهدمة وشجرة الزيتون التي نبتت بين الصخور.. تململ ثم انكمش مثل قنفذ للحظات.. زحف على بطنه، وقبل أن ينفلت تفقّد زملاءه السبعة لعل أحدهم بقي فيه رمق، أو أخطأته رصاصاتهم القاتله.. تحسّسهم واحداً واحداً، وضع أذنه على صدورهم متعلقاً ببصيص أمل.. كانت الرصاصات قاتلة ونافذة، والدماء ما زالت تسيل حارة.. امتزج ظلام الليل بالأفق، وعاد مرة أخرى يتعثر في أحاسيسه وذكرياته وخواطره المتضاربة.. عاد ثانية وتحسّس رفاقه.. تأكّد أنهم سبقوه إلى رحلة الخلود، وتركوه.. مسّد جفونهم وأسبلها على عيونهم.. تأمل وجوههم ثانية.. لاحظ في الشفاه انفراج وكأنها بسمة الاطمئنان.. كانت دماؤهم الطاهرة تنـز سائلاً ليورق شجرة الزيتون.. انبثقت دموعه من الموت وأسف على فراق رفاقه.. منهم العريس الذي لم يكمل شهراً مع عروسه.. منهم من هو أب لطفلة تتعثر في الخطو والحرف.. منهم الطالب، منهم المدرس ومنهم المهندس.. لن يعودوا، لكن ذكراهم ستبقى عطرة على ألسنة الناس وسجلات التاريخ.. تبلور في ومضة أحاسيسه وتمنى لو رافقهم.. ارتمى بدافع الغريزة وانكمش وتظاهر بالموت.. إنه الصراع الخفي من أجل الحياة.. ربما لم يحن أجله بعد.. ربما ساحة جديدة تنتظره.. مخيم جديد.. في سريرة نفسه أقسم أنه سيواصل الجهاد، ينال شرف الاستشهاد ويلحق برفاقه.. تعثّرت قدماه وتلعثمت خواطره.. ماذا يفعل!، يعود إلى أهله، شظايا إنسان محطم وعبء ثقيل.. يبحث عن أهله.. سيطارده الجنود ثانية، يقتلعون جذور عائلته من الأرض وينسفون بيته إذا بقي له وجود.. تساءل في قرارة نفسه "هل قُدّر لهذه الأجيال ألا ترتاح!.. تتوارث المتاعب كما تتوارث سحنات الوجوه ولون العيون ونبرة الصوت".. تراءت له والدته تزغرد عند عودته سالماً.. تذكّر أنها زغردت يوم ختانه وزغردت يوم زفافه.. أما الزغرودة الثالثة فلم يسمعها بعد.. أقسمت أنها ستزغرد يوم يرزقه الله بولد.. حين جاءت طفلته الأولى لم تزغرد والدته.. اعتقد أنها ستزغرد يوم استشهاده.. تراءى له طفلته تناديه "بابا، بابا".. رآها في انبطاحه بين رفاقه تبتسم له.. تفاءل بهذه الابتسامة.. الابتسامة تعني النصر، العودة سالماً إلى البيت.. زحف، ابتعد، غمرته الجدران المتهدمة وأخفته عتمة الليل عن العيون.. وقبل الفجر بقليل، أحاط به رفاق جدد.. انتشلوه من الهم والألم والموت، ووضعوه في دائرة الاستجواب.. "كيف نجوت وحدك!؟"، تكاثرت التساؤلات وعلامات الاستفهام حوله.. أجلسوه وحيداً في غرفة جانبية وسط الظلام.. فتشوه، لم يجدوا معه ما يثبت شخصيته.. سأله أحد المقنّعين المتوارين خلف الثورة عن المبلغ الذي قبضه.. كم، وأين خبأه!؟.. واستجوبه آخر متهكّماً "لا بدّ أنك على اتصال مباشر بجنود الأعداء، وإلا كيف نجوت وحدك من بين العشرات!؟".
حاول إقناعهم إنه من المقاتلين، وإنه من مجموعة الشهيد ناصر.. كشف لهم عن جراحات صدره وذراعيه.. قال أحدهم "نحن نعرف مجموعة الشهيد واحداً واحداً، ونعرف أنك لست واحداً منهم".[/align]
[align=justify]حاصروه بعيون مرتابة، وضيقوا عليه بالأسئلة المتشكّكة.. تهامس المتحلّقون حوله.. وقال أحد المتسرّعين "لا وقت لدينا، العدو يحاصرنا، ولا مجال في إضاعة الوقت أو محاكمته.. المطلوب كلمة واحدة بريء أو مذنب".. تطايرت النظرات وحاصرته الكلمات.. مظلوم، بريء، متّهم، جبان، كذّاب، محجوب عنه الرصاص، عميل، مذنب، متواطئ، جاسوس.. سوس.. سوس.. سوس.. تطايرت الكلمات وصدى الصوت عمّ أرجاء المكان.. طارت الكلمات وسرت الشائعة في المخيّم سريان النار في الهشيم.. "قبضوا على جاسوس.. سوس.. سوس".. دافع عن نفسه.. "اسألوا وتحققوا قبل أن تندموا.. أنا من مجموعة الشهيد ناصر".. ضاعت الكلمات بين ركلاتهم.. كمّموا فمه وخنقوا صوته.. أوثقوا يديه خلف ظهره، وقبل شروق الشمس علّقوه على سلّم خشبي وأطلقوا عليه النار.. وكانت أصابعهم أقل ارتعاشاً وأشد ثباتاً من جنود الاحتلال.[/align]
* كاتب- قاص وروائي أردني – ( تم حذف البريد لأن عرضه مخالف لشروط المنتدى )
وصف متقن و مشاهد أبدعت في كتابتها , دراما الموت تضحية و التشبث بالحياة والتأرجح بينهما ومشاعر قوية لإنسان في ظروف خاصة .. فعلا استمتعت بسلاسة نصك و عاش خيالي مع وقائعه.
كل التقدير و التحية
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
رد: تعددت الأسباب..
[align=justify]
القاص الأستاذ ابراهيم عوض الله الفقيه
أسلوب متميّز وسرد ممتاز ولغة طيعة وقضية جريئة تستحق تسليط الضوء عليها
أشكرك جزيل الشكر على هذه القصة المتميزة وأتمنى أن نقرأ لك المزيد
قمت بالتقييم ووضع القصة في المفضلة فيما ننصح بقراءته بانتظار المزيد من إبداعاتك
تفضل بقبول أعمق آيات تقديري واحترامي
[/align]