التسجيل قائمة الأعضاء



 
القدس لنا - سننتصر
عدد مرات النقر : 137,836
عدد  مرات الظهور : 162,273,947

اهداءات نور الأدب

العودة   منتديات نور الأدب > مـرافئ الأدب > قال الراوي > الـقصـة القصيرة وق.ق.ج.
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 25 / 06 / 2009, 18 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
باسم عبدو
روائي وقاص مدير تحرير جريدة النور

 الصورة الرمزية باسم عبدو
 




باسم عبدو is on a distinguished road

اعترافات عائشة

[align=justify]
انتظرتُ بزوغ الشمس بفارغ الصبر ، ولم أعطِ فرحتي للقمر . سرقتُ همسات الفجر من أوّل ضوء . تباطأتْ خطواتُه نحوي ، لكنّه فَقَد الأمل ، وهجم عليًّ .
كنتُ في العلّية المزنَّرة بأربع نوافذ ، المطلّة على أربع جهات ، أصرّ ثوب العرس في منديل أحمر ، لكنَّ الخوف ملأ فضاء روحي ، وتصاعد كأنَّه يهرس بحجر فرحتي ! .
أسبحُ في بركة الخوف ، بينما كان صرير باب الغرفة ، يتناثر جمراً . أغلقتُ النوافذ تكوّرتُ فوق سريري .
الآن ...!
وبعد أن مزقتُ حُلماً في ذاكرتي ، كاد أن يتحّول إلى مُصيبة ، ونتفتُ ريش أغنية خرجتْ عصفورة من عشّ ، احتلت فراغاً ضيّقاً فوق جسر حديدي في منتصف السقف ، طويتُ لُهاثي . احتضنتُ آخر وصيّة أضاءتها أُمّي قبل أن أودّعها:
( انتبهي يا عائشة . كوني حذرة من رجل كأبي صبيح ، فكان أبو زيدون الذي عاشره طويلاً ، يصفه بصاحب الكيف ، فهو رجل يحبُ النساء ، والليالي المقمرة ) .
هذه هي المرّة الأولى التي أفتح فيها باب ذاكرتي ، فتخرج الوصيّة تلهث ، وتفتـّش عنّي في ساحات المدينة القديمة ، ورُعب الليلة ما قبل الماضية ، كشف ضوء القمر وجهه، فتسمّر أمامي . غطته خيوط بصري ، ورسمتْ على جسده لوحة ... حرَّكتْ في داخلي أشجاناً . تركتْ بلا خجل مساحات صغيرة ، لقُبلة يتيمة .
أطفأتُ نور الغرفة . نمتُ يغطّيني اضطرابي . أحسستُ أنَّ ذاكرتي تحمل أحزان المدينة . وأنَّ الماء يتفجَّر من بركة ملأى بالهواجس . أغلقتُ الباب ، وأنا أرتجف . خطفتْ فراشة ابتسامة منّي ، وطارت تحمل دموعي .
بقيتُ أنتظر اللقاء معها في الليلة القادمة ، لأنّي سأبوح لها باعترافات خطيرة عن أبي صبيح !.
الاعتراف الأخير ....
أنا عائشة من آل الفضل ، ومن قرية " العدَّالة " تعلمتُ القراءة والكتابة عند شيخ القرية في قُرْنة المسجد الشرقية مع ثلاث بنات وخمسة صبيان . قرأتُ بياناً صادراً عن جماعة أبي صبيح ، تُهاجم فيه الإقطاعي الذي كان يملك نصف أراضي القرية ، فهربتُ وأودعتُ دفتري عند صديقتي .
قرأتُ البيان أمام الفلاحين ، فنهضتْ في داخلي أسوار اللَّهفة ، وأنا أتباطأ في تعداد فقراته ! .
ودّعتُ أُمّي وأختي . وقفتُ قبل انطلاق الحافلة ، بجانب قبر أبي . قرأتُ الفاتحة على روحه الطَّاهرة . عاهدتُ نفسي بالثأر له من أبي زعل ، لأنَّه أفسد حياتنا ، عندما أسرَّ للجنرال الفرنسي عن بلشفيته . ظلَّ الدرك يطاردونه إلى أن استشهد بين قوائم أحصنتهم .
الاعتراف ما قبل الأخير ..
هربتُ من بيت أبي صبيح ، بعد أن تطوَّعت في العمل خادمة بمنزله عاماً كاملاً . وعندما سألني جنرال من جنرالاته ، وأنا في نهاية الزّقاق ، المطلّ على الشارع الرئيسي : لماذا تهربين في هذا الصباح الشتائي البارد ، وأعلم أنَّ لا مأوى لك في هذه المدينة الكبيرة ؟ .
قلتُ : حاول أن يُسْكرني معه ، ويجبرني أن أشرب الخمر ، ويبصقني ، ويتركني ملوَّثة بالعار ، وهو ثمل ، كما فعل مع صديقتي سلمى ! .
الاعتراف الأول ...
كانت السعادة تطفو فوق روحي ، وتسبح نبضات قلبي في دمائي . تفور هواجسي في قِدْرٍ من الحُبَّ والبراءة ، في مدينة تزدحم بالطنابر والعجلات والعتَّالة والبيوت والتجَّار ، والأبنية الشاهقة والخانات والأسوار العالية .
وكان الفارس المحمول على أجنحة النَّاس ، يتسلَّق ظلّه رفوف منازلنا ، وصورته تخاطفها الفلاحون ، وعلَّقوها في صدور بيوتهم ، لكنّي أنقذتُ نفسي في لحظة ضعف أصابته ، وخوفاً سمعتُ دبيبه ، وهو يتزاحم في صدره ! .
الشهادة الأولى ...
تنقدني زوجه بعد بزوغ شمس صباح كلّ يوم مبلغاً لأشتري الخضار واللحم والبيض، وحاجيات البيت اليومية .
كنت أُقدَّم لها فاتورة ممهورة بخاتم البائع ، وعندما تستلمها ، تبصق في وجهي ، وتتَّهمني بالتزوير والسرقة .
الشهادة الثانية ...
تجتمع العائلة حول مائدة الغداء ظهراً ، وفي تمام الساعة الثانية من كلّ يوم ... تمنيتُ أن تدغدغني كلمة لطيفة ، وأن يدعوني أحد أفراد العائلة ، لتناول الطعام معهم ! .
لم أنس الدرس الذي لقَّنني إيّاه أبو زيدون . وكان أهمُّ الزوَّادات في حياتي ، من خلال تجربته المريرة معه ، حينما كان يحمله على ظهره ، ويقطّعه النهر ، فيبول على كتفيه ، وينكر فعلته ، ويشرب أفخر وأغلى أنواع المشروبات الروحيّة ، ولا يقول له : تفضَّل يا صديقي ، وخُذْ جرعة لذيذة !
المهمّ في الأمر أنّني أصبحتُ كالكلبة ، يسيل لُعابي حينما أشمّ رائحة الطَّعام . أنتظر، وعيناي تُبصران ، وأذُناي تسمعان هسيس الكلام والنكات ، وطقطقة الشّوك والملاعق والصّحون .
كنت أقول في نفسي : ( اصبري يا عائشة ... اصبري ! ) ، فأفرح وأنا أهمس في سرّي ذليلة ، لكنَّ نفسي كبيرة ، فلا أحد يقدر أن يتجاوز حدوده ، إنْ كان أبو صبيح ، وقبله الإقطاعي والمختار الدّسّاس ، ومرابعوه ! .. لكنَّ الجوع يا سلمى !..
الجوع يظلُّ هو هو ، لم يتغيَّر ، وأنتِ تدرين أسراره ، عندما يثور ويغضب ، وتتلوّى معدتي ، وتعصر من شدّة الألم ... حينئذٍ تدبّ الرحمة في قلب " ستّي " أمّ صبيح الوقورة ، فتجمع الفضلات في صحن واحد ، وتقد ّمه لي ، فأتحوَّل إلى قطَّة جائعة !! .
الاعتراف الثاني ...
استغلَّ أبو صبيح غياب زوجه . همس في أذني : ( ناوليني يا عائشة المنشفة ، والثياب الداخلية بعد قليل ) .
تناسيتُ الأمر ، بينما كان يرشق الطَّاسة الأخيرة من المياه الساخنة على جسمه ، لكنّي استدركتُ متأخرة ، وأنا شاردة ، ووضعتُ ثيابه على كرسي أمام باب الحمَّام ، وصعدت إلى غرفة السطح .
سمعتُ دقّات حذاء زوجه . كانت تهبط الدرجات السّت ، وتصيح لي ... تردّد اسمي مرّات ومرّات ، لأحضر لها الشحَّاطة .
شقّ أبو صبيح الباب دون آن يظهر رأسه. مدَّ يده . شدَّ زوجه بقوّة كالثور. أغلق الباب خلفه . وبينما كانت ضحكتها تتعالى ، ويتزايد صراخها ، كان أبو صبيح يرتجف . تصطك أسنانه ، وتزقزق روحه ، على الرغم من دفء الحمَّام ، وسخونة الماء التي اندلقت عليه .
سمعتُ صفعات أقلّ خطورة ، ممّا يحكى عنها ... ثمَّ خرجا ، وهما في حالة عراك .. يتدافعان كديكين فاشلين !
حملتُ صرّة ثيابي إلى شارع أجهل اسمه ونهايته ! . أبحثُ عن صديقتي سلمى ! كانت قرية " العدَّالة " تتراءى لي بجمالها من بعيد ، ووالدي يفتح قبره ، ويخرج كالمارد ، ينتظرني أمام بوَّابة المقبرة ، فاتحاً ذراعيه .
الشهادة الثالثة ...
المقبرة في قرية " العدَّالة " تختلف عن مقابر القرى المجاورة ، فلها سور يحميها من الحيوانات الشاردة ، وباب حديدي ، لكنَّ مُرابعي أبي زعل ، كانوا يتسلّلون من كُوَّة نقبوها في الجدار ، يمضون ليلتهم ، يشربون الخمر ، ويلعبون الورق على قبر أبي ... وما زالت الزجاجات الفارغة ، وقشور الفستق والمكسّرات تتناثر فوقه .
وعندما هربتُ من بيت أبي صبيح ، وتركت المدينة ، وعُدت إلى العدَّالة ، استقبلني أبي بفرح عظيم . دعاني إلى مائدة شهيّة ، كان قد أعدَّها احتفاء بعودتي ، وقناعتي بأنَّ أبا صبيح لا يصلح قائداً للفلاحين ، لأنَّه يحكي ويكتب عنهم ، ولا يجالسهم ، أو يُشاركهم طعامهم وشرابهم .
هززتُ رأسي ، وأنا أَنْتش لحم أصابعي من الندم ! .. كنت جائعة ، فمنذ يوم وليلة لم أذق الطّعام .
جلسنا على العشب بين قبرين . فتح والدي صرّة الطعام ، وكان زيتوناً ولبناً رائباً وبصلاً ، ورغيفين من خبز التنور ... إنّه طعام لذيذ طيّب وطازج ! .
قال والدي : تزورني أُمّك مرّة في الأسبوع ، قبل طلوع الشمس . تنوح بجانب القبر ... توقد أعواد البَخُور . تترك صرّة الطعام وتخرج ، بينما أربعة من رجال أبي زعل ، يأكلون هذا الطعام ، ويسكرون ويبولون على قبري .
شدّني من يدي . دخلتُ معه إلى القبر .. هبطنا ثلاث درجات ، وعند الغروب وقبل أن يضحك القمر في قُبّة السماء ، سمعنا كلاماً وهَرْجاً ووشوشات ، وأصوات زجاجات وأقداح . وفاحت في المكان رائحة المُنْكر ! .
أصاخ والدي السمع ، وقال : اسمعي يا عائشة فحيحهم . فهذا رشيد يبول على حافة القبر ، ومرعي يشتهي امرأة سيّده ، وجاسر يُقسم بأنّه سيتزوَّج أُمّك الأرملة ، وخميس يشتم المختار .
نمت تلك الليلة على ذراع أبي ، وبعد انبثاق الضوء ، سمعت صُراخهم ، وخبط أقدامهم ، وهمساتهم كالضباع .
تنحنح والدي ، فعمَّ الهدوء ، وفرَّ المرابعون فزعين ! . عندها رفعتُ رأسي عن مقعد الحافلة !! .
كانت أُمّي تدفع طاسة الماء ، وتقرّبها من فمي ، تحثّني على النهوض ، فقد سبقني الحصَّادون إلى الحقل .
حملتُ قِرْبة الماء ، وقُفَّة كبيرة من التمر ، وسطل الّلبن والخبز . وكان الصباح النّديُّ يدغدغ أهداب السنابل ، والهواء النّظيف يعبر مسامات جسمي ، وثقوب ذاكرتي .
أحسستُ أنّني أمتلك مساحة واسعة من الدنيا وشمساً وقمراً !! ..

[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
باسم عبدو غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 26 / 06 / 2009, 46 : 12 PM   رقم المشاركة : [2]
نصيرة تختوخ
أديبة ومترجمة / مدرسة رياضيات

 الصورة الرمزية نصيرة تختوخ
 





نصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond reputeنصيرة تختوخ has a reputation beyond repute

رد: اعترافات عائشة

سرد مميز و أسلوب شيق للغاية , إعترافات عائشة متنوعة و جريئة واضحة الملامح و تستحق التأمل .
تحياتي
نصيرة تختوخ غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
اعترافات رشيد الميموني ملف القصة / رشيد الميموني 11 02 / 12 / 2020 20 : 04 AM
اعترافات طاعن في الحزن!! (الجلسة الأولى) محمد الصالح الجزائري الشعر 22 05 / 09 / 2020 22 : 05 AM
اعترافات قاسم فرحات إبداعات الشعراء الشباب 3 23 / 11 / 2014 55 : 04 PM
عائشة طلعت سقيرق القصص 3 22 / 08 / 2011 10 : 02 AM
ملف تحليلي عن اعترافات أخطر العملاء مازن شما اعرف عدوك 2 14 / 04 / 2009 00 : 01 AM


الساعة الآن 36 : 07 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Tranz By Almuhajir *:*:* تطوير ضيف المهاجر
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education

الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الإدارة وتمثل رأي كاتبها فقط
جميع حقوق النشر والتوزيع محفوظة لمؤسسة نور الأدب والأديبة هدى نورالدين الخطيب © ®
لا يجوز نشر أو نسخ أي من المواد الواردة في الموقع دون إذن من الأديبة هدى الخطيب
مؤسسة نور الأدب مؤسسة دولية غير ربحية مرخصة وفقاً لقوانين المؤسسات الدولية غير الربحية

خدمة Rss ||  خدمة Rss2 || أرشيف المنتدى "خريطة المنتدى" || خريطة المنتدى للمواضيع || أقسام المنتدى

|