حارس المسيرة
حارس المسيرة
بقلم ابراهيم عوض الله الفقيه*
كان كل شيء ينبئ بالحزن بعد أن دفن يوسف جثمان أخيه وعاد للبيت.
خبأ أحزانه، وراح في خلوته يستعيد صورة أخيه الشهيد، ويقرأ الماضي والحاضر والمستقبل حسب معرفته وما علق بذهنه.. جال بخاطره كيف قاتل واستشهد، وحين أغمض عينيه، أسند رأسه على الجدار، واستسلم لسحابة نوم.. تراءى له أخوه بأم عينيه يرتدي ملابس بيضاء ويتقدم نحوه، ينحني ويمسح ما علق فيهما من دموع، ثم وبكل هدوء أومأ له أن يتبعه.
قال وهو يخنق دموعه ويتأبط ذراع أخيه في طريقهما إلى مقبرة الشهداء "ما يؤلمني يا أخي أن أراك تستشهد قبل أن يتحقق هدفك".
أجاب "وهل تتوقف المسيرة إذا زاد عدد الشهداء واحداً.. أنا لم أفقد سلاحي، لقد تركته أمانة بين يديك وبين يدي المقاتلين الشرفاء".
في المقبرة وقف مجموعة من الشهداء يرحبون به، سلّم عليهم واحداً واحداً.. وقال "يؤلمني أن تستشهدوا قبل أن تروا نهاية البنيان".
ابتسم أحدهم وقال "سنموت فعلاً إذا توقفت المسيرة، أو تخليتم عن الأمانة التي تركناها بين أيديكم".
هبّت رياح كانون، تمايلت الأزهار الذابلة وتطايرت الأوراق الجافة، وخلّفت رائحة عبقة ملأت المكان.. اختفى الشهداء عن ناظريه، تمرّد أخوه وسط الظلام وانسحب ليتمدد وسط حفرة يملؤها النور.. صمْتٌ مطبق غلّف يوسف، وأخذ يتكسر بألم حاد بين ضلوعه.
لم يمت أخوه بسهولة، "حدث نفسه"، كانت أوصاله مقطعة قبل أن يحمل السلاح، منذ ولادته شعر أن أوصاله مقطعة.. أما عندما أبصر النور، ورآه في عيون أطفال الحجارة وسواعد المقاتلين، تأكد له أنه يعرف طريق العودة جيداً، كما يعرف الضغط على الزناد.
هبّت الرياح الباردة ثانية، تمايلت الأغصان وأسقطت أوراقها الصفراء، انحنت النباتات الصغيرة تُقبّل الأرض، وأرسلت الأشجار الكبيرة صريراً يشبه الأنين والنواح، ذابت الألوان وتجمعت بلون ورقة صفراء جافة تتقاذفها الرياح، وبدا صوت الأشجار كصرير الخشب في سفينة تغرق، سرت قشعريرة في جسده، وتأهب لمغادرة المكان، تململ أخوه الشهيد في قبره، وقف بملابسه البيضاء كالمارد وسط الظلام، وصرخ "تمردوا على حواجزهم، وكونوا يداً واحدة، ولا تغرقوا سفينة العودة"، وعاد يرقد بهدوء..
لملم يوسف قواه، وسار بخطوات مترنحة مبتعداً عن أخيه، فجأة أحس بضربة عنيفة على رأسه.. وصوت يقول "ماذا تفعل هنا؟"..
صدى الصوت هز جوارحه وراح يتردد في أرجاء المكان، قال وهو يكاد يفقد الوعي "كنت أزور أخي"..
عبر الظلام تبادل كلمات مقتضبة مع حارس المقبرة الذي كان يرتجف ويهزه من صدره، ويلوّح بمجرفة ذات عصا طويلة بيده اليمنى فوق رأسه.. بدت حنجرته مثل بئر جافة ولم يستطع النطق، وفجأة تعالى صوت المؤذن يعلن عن بزوغ الفجر ويردد عالياً "الله اكبر، الله أكبر".. تراخت يد الحارس، وسقطت المجرفة من يده، وهرول يوسف خارج أسوار المقبرة وهو يقرأ ما تيسر له من القرآن..
فجأة صحا من غفوته، شعر بتعرّق جسده وخدر شديد في ساقيه، وكان خط من الدماء يسيل من رأسه.
* قاص وروائي
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|