أدب الحزن
أدب الحزن
قال لي صديقي وهو يحاروني لماذا تستعذب حروفك الحزن حين تنبض بالشعر؟
قلت لقد حاول الباحثون الكشف عن أسباب ارتياحنا للأدب الحزين وذكروا آراء قد لا تكون حاسمة ولكنها تلقي الضوء على ما نسميه أدب الحزن فمثلاً يذكر الأديب البريطاني "مونتاج" فى كتاب له عنوانه " مباهج المأساة" حيث يقول:
" فى تحقيق أُجري بمناسبة إطلاق أحد أفراد العصر الحديث الرصاص على نفسه فى أحد الفنادق في لندن ظهر أن هذا الرجل قد ذهب فى مساء اليوم السابق على وفاته إلى المسرح لمشاهدة إحدى المسرحيات المأساوية وحينما ذكر اسم المسرحية قال المحقق نعم إنى أعرفها إنها رواية تمثيلية تبعث على الاكتئاب الشديد"، ويتساءل "مونتاج" بعد ذلك هل يمكن القول بأن المأساة مهلكة وقتالة للرجل المتزن العقل؟ ويرى أنه ليس هناك من يقر هذا الرأي لأنه بالبحث فى حياة قاتل نفسه وجد أنه كان يائساً قد أضنى نفسه وفقد ماله وطلق من زوجته ولذلك لايمكن القطع بأن هذه المسرحية المأساوية كانت وحدها سبباً فى قتله لنفسه.
ويرى بعض الباحثين أيضا أن المأساة تهز نفوسنا وتفزعنا وتجعلنا نشعر بأن البشر لاحيلة لهم ولا قدرة أمام سطوة القدر وسوء الحظ ووقوع المكاره، وتكشف لنا كيف تهوي العظمة من عليائها وتنهار القوة وكيف تذبل الزهور التي كانت مشرقة ومحط أنظار العيون وشفاء لهفة القلوب.
ويرى البعض أيضاً أن المأساة تجعلنا نشعر بالضياع والسقوط، ولكن الحزن فى الأدب يختلف كله عن الحزن الناتج عن شعورنا أمام الكوارث التى نواجهها فى الحياة الواقعية، فنحن حين نلمس الحزن فى الأدب تلم بأنفسنا مشاعر منتقاة وخالية من الخطر وهى بموجب هذا المعنى تصقل النفس وتشد من عزمها وتثري القدرة على مواصلة الحياة والنضال ضد انهيار العالم من حولنا وتقوي استعدادنا لملاقاة الخطوب وهى اللقاح الذى يكسب الجسم مناعة تقويه ضد المرض.
وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى وجدنا أننا نشعر بالعطف على من يفتح لنا مغاليق قلبه ويفضي إلينا بدخائل نفسه. وكتاب الأدب الحزين استطاعوا التغلغل إلى نفوس أبطالهم واستحضروا فيها أهواءهم وميولهم وجعلوها وسيلة لنقل مشاعرهم إلى وجداننا.
وقد استطاع من خلال خطابه الأدبي تصوير مشاعر وأحاسيس نعجز نحن عن تصويرها لكنها تريحنا عند تلقيها فهو أقوى منا إحساساً وأبرع تصويراً وهو يقدم لنا ثمرات هذا الشعور الدافق وكأنه يفضي إلينا بما خالج نفسه من أهواء ومشاعر، ويمكننا بوعي أو بغير وعي أن نستطيب هذه المشاعر التي تحرك فينا بواعث العطف والمشاركة الوجدانية وكل اقتراب عقلي أو عاطفي يُدخِل على نفوسنا المشاركةَ الوجدانية يزيدنا ثقة بأنفسنا.
ويقول الشاعر الروماني " هوراس" :استشعر الحزن والأسى إذا أردت أن تجعل من نصك مفجرا لدموع عيني". ويرى أرسطو أيضا أن المأساة تشبه العلاج الطبي فشاعر المأساة ينقي نفوس الذين يقرؤونه ويردهم إلى العاطفة السليمة ويريح أنفسهم، ومن هنا فإن فى أدب الحزن تناقضاً يبعث على التفكير فمن طبيعة الإنسان تجنب الألم لكن أدب الحزن لا يثير فينا الشعور بالألم وإنما يحدث عكس ذلك لأننا حين نقرأ أو نشاهد أدب الحزن فإنه يخرجنا من الحياة العادية إلى حياة شائقة، وإذا كان هذا الأدب يدخل الحزن على نفوسنا فإنه فى نفس الوقت يقدم لنا صوراً من الحياة تسمو بالنفوس أيضاً وتقوي عزمها وتزودها بنظرات صائبة للحياة وتجارب نافعة وربما كان هذا سبباً فى أن يحتل هذا الأدب مكانة مرموقة فى تاريخ الآداب المختلفة قديماً وحديثاً.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|