يحمل إجازة في اللغة العربية .دبلوم في التربية، يكتب القصة المسرحية والشعر
ليتني أعيد ترتيب حياتي من جديد
ليتني أعيد ترتيب حياتي من جديد
( قصة بقلم : عبدالرحمن سرور )
تشرق الشمس ويولد فجر جديد , وتأخذ قريتي ككل القرى والأماكن نصيبها من الحياة , فالشمس تشرق كعادتها ولا شيء يختلف عن اليوم الذي مضى , العصافير تزقزق وتكسر صمت الصباح , أحتسي الشاي وأنا أجلس على المصطبة أمام بيتنا الطيني الفقير , أرى الناس قد بدؤوا باستعادة نشاطهم من جديد بعد ليلة أراحوا فيها أجسامهم من تعب يوم مضى , مستعدين لاستقبال تعب يوم بدأ للتو , كل شيئ جميل صياح الديكة , ونباح كلب جارنا أبي مستو , ونقيق الضفادع المتناغم على ضفة النهر وزقزقة العصافير فوق شجرة التوت التي تتربع فوق مصطبة دارنا بأوراقها الخضراء وظلها الذي جعلها استراحة للعابرين إلى حقولهم , و صوت بائع الحليب المتجول يتناغم بين أزقة قريتي الترابية , وصرير النوافذ الخشبية التي بدأت جاراتنا بفتحها لاستقبال نشاط يوم جديد .
هاهو يطل من بعيد , إنه خالي كرمو , يركب حمارته العرجاء بدون سرج , مدخنا سيجارته العربية , مطلقا سعلته المعهودة بعد كل رشفة منها , ومن بعيد يرسل لي ضحكته التي تكشف لي عن سن وحيد أكله السوس لكنه بقي صامدا على واجهة فمه , كصموده وحيدا بعد وفاة زوجته منذ كان شابا , يقترب مني أكثر بجسمه النحيل وسواعده السمراء المتخشبة , يصل إليّ مسلما : كيفك ياخال , لم أرد عليه فورا لأنني انتظر حتى ينتهي من سعلته , هاهي قد هدأت والحمد لله , أهلا ياخالي , تفضل , يجيبني وحمارته العرجاء تشق طريقها باتجاه أرضه وقد تجاوزني بمسافة : الأرض تنتظرني ياخال , وعلي أن أسقي اليوم مسكبة الفاصولياء , فاليوم حصتي في السقاية ولم أسمع بعدها ماذا يقول لأن صوته غاب شيئا فشيئا وكنت أدرك أنه ما زال يتكلم ويعتقدني أسمع , هو دائما هكذا , إنسان يحب أرضه ويعشق ترابها , ويأكل من خير مايزرع .
رائحة الخبز الآن تتسلل إلى أنفي من تنور جارتنا أم مسعود , فبجانب الطاحون القديم على ضفة النهر في مدخل القرية يتربع بيتها , فهي تعد الخبز بشكل يومي, وتبيعه لأهل القرية , مع أن غالبية أهل قريتنا لديهم تنور في بيوتهم , لكن البعض من نساء هذه الأيام أخذن بالتكاسل , فاستسهلوا شراء الخبز الجاهز من أم مسعود , عن الخوض في غمار الطحن والعجن , هن أحرار, فالحياة تطورت هذه الأيام وخاصة منذ افتتاح مدرسة في قريتنا عندما عاد الأستاذ قدري من السفر , كنت صغيرا عندما سافر أول مرة , فقد باع أبو قدري حصته من الأرض لإخوته وبعث ابنه إلى المدينة ليتعلم , وعلمت فيما بعد أنه أرسله إلى بلاد الغربة كي يكمل دراسته هناك , لا أدري ماذا تعلَّم هناك لكنه الآن صار يتكلم أشياء جديدة لا نعرفها , وبعدما عاد بأيام علمت من بعض المقربين منه أنه اقترح على المختار افتتاح مدرسة في قريتنا , وذهبوا سوية إلى المدينة , لكن خلال أشهر قليلة افتتحوا مدرسة في بيت أبوحدّو وسط القرية فقد كان لديه بيت كبير , وساحة واسعة بداخله , وصرنا نشاهد المعلمين والمعلمات يأتون صباحا ليعلموا أبناء القرية , كان أهل القرية يصطفون على شرفات بيوتهم صباحا ليشاهدوهم وهم يتوافدون إليها صباحا , كانت أشكالهم جديدة وغير مألوفة للبعض , وكانت زوجتي تقول لي ( شوف كيف أشكالهم ! أكابرلية ! ) , وكانوا يراقبون أولادهم كيف يزحفون إلى المدرسة كل صباح , فغالبية أهل القرية بعثوا بأولادهم إليها , فمنهم من أرسل أولاده مقتنعا بفكرة التعليم ومنهم من أرسلهم بدافع الغيرة وكي لا يقال عنهم : لماذا لم يبعثوا أولادهم إلى المدرسة ! .
كنت أشاهد الأستاذ قدري مسرورا جدا من ازدياد أعداد الأولاد في المدرسة , وقد سمعته يوما يقول : غدا سترون كيف سيتغير حال القرية عندما يكبر هؤلاء الأطفال !! . في وقتها لم أفهم صراحة ما يعنيه , لكنني اليوم عرفت معنى كل حرف قاله الأستاذ قدري , فالأطفال كبروا , وأصبح منهم الطبيب والمهندس والمعلم , لكن قبل ذلك كان الأولاد يكبرون ويصبحون الفلاح والفلاح والفلاح !!
هكذا بدأ الصباح في القرية وهو يبدأ كل يوم هكذا , الأحداث تتكرر , لكن بعد افتتاح المدرسة وتخرج الطلاب منها تغير كل شيء , صرنا نشاهد أولادنا وهم يذهبون إلى المدينة لمتابعة دراستهم , و قد تغيرت الحياة بعدها , فقد أصبح عندنا مستوصف يديره أطباء وممرضات وموظفات من أبناء قريتنا , كنا فرحين جدا , لم نعد نعاني من عناء الذهاب إلى أقرب قرية للبحث عن طبيب أو من لديه خبرة بالطب , فالدكتور فرحان افتتح في بيته عيادة صغيرة يستقبل فيها المرضى في أي وقت , وكان طيبا جدا يحب أبناء قريته , ويعالج بالمجان من ليس لديه المال , لذلك كان محبوبا من الناس , لقد رباه أبوه على التواضع وحب مساعدة الآخرين.
أما المدرسة فقد أصبح فيها كل المعلمين والمعلمات من أبناء القرية , كانوا يحبون الطلاب ويحرصون على مصلحتهم , وقد ذهبوا جميعا وطالبوا ببناء مدرسة رسمية في القرية وقد تحقق مشروعهم خلال فترة قصيرة .
تعبدت شوارع القرية وصار لها مدخلا جميلا مزروعا بالورود , وأصبحت كل الطرقات والمداخل في القرية نظيفة غير موحلة , وأعمدة الإنارة مزروعة على طول الطرقات تزين ليل القرية بجمال أخاذ لم نكن نتوقعه , كان ذلك بفضل المهندسين الذين أنشؤوا بلدية عملت على تحسين البنية التحتية من طرقات وشبكة للماء والهاتف خدمت كل بيت في قريتنا , كذلك صار هناك ساحة في القرية يتوافد عليها الموظفون للذهاب إلى وظائفهم صباحا , يستقلون منها الحافلات التي أصبحت تعمل طوال النهار وتنقل الناس إلى أعمالهم .
إنها قريتي التي بنيت بسواعد أهلها , ونمت وتطورت بعقول أبنائها , لم أكن أعرف أن الأجيال المتعلمة تصنع المستحيل وأن القلم يصنع المعجزات , ليتني أستطيع أن أعود بالزمن إلى الوراء وأعيد ترتيب حياتي من جديد.
11\4\2013
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب
رد: ليتني أعيد ترتيب حياتي من جديد
[align=justify]قصة هادئة تأخذنا إلى عالم القرية الجميل حيث البساطة .. ثم نلمس التغيير الإيجابي والسلبي الذي طالها .
أحداثها لا تخرج عن إطار التغيير الذي شمل مرافقها ولهذا لم يكن هناك عقدة وحل .
أسلوب جميل وسلس يجعلني أترقب أعمالا أخرى للأديب عبد الرحمن .
تحية محبة لشخصك الكريم .[/align]