عبر من وحي الأحاديث الشريفة
قصة قصيرة للأولاد
دماء الرعية
أنا أقر بأنني مجرم. لكن قبل أن تحاكموني، حاكموا أمي وأبي، لأنهما لم يعرفا حق رعاية الأسرة ومسؤوليتها.
1
راكد المساء بنجومه البعيدة.. يغمر حارتنا الواجفة، المغلفة بحزن ثقيل.. ويطأ ما حوله بصمت وسكون.
الحزن يتسلل إلى نفسي راسماً خطوطاً متشابكة، مشوِّهاً بياض سريرتي، مبعداً النوم عن جفوني الثقيلة.. فأنا منذ سنين عدة، لا أنام مثل كل الناس، وما نعمت أبداً بحكايات الأمهات، لأنني لم أعرفها أصلاً.
فطفولتي انتهت منذ زمن بعيد. وأنا كبرت فجأة، بل لأقل إنني أجبرت أن أكبر فجأة كيما أتجاوز سنواتي، وكيما أترك ماضي الطفولة.
ولأعترف بصراحة أكثر، فلا فائدة من الخجل، ما دامت قصتي وصمةً عرفها أهل حينا جميعاً، بأنني مكتئب من لحظات عمري، لأن الماضي بالنسبة إليَّ قاس كئيب، ونفسي، ما أزال، أحسها محطمة، لم تتعشق بصيص نور إلاَّ بعد أنْ شارفتِ اليأس أو كادتْ.
وبما أنني اليوم فتحتُ صفحة الزمن، فلأعترف بأخطائي كلها، ولأقل ببساطة إنه لو كان بمقدور إنسان أن يسلخ ماضيه من عمره، لكنت أولَ من حطم أيامي، وذرَّ جميعَ ساعاتها في الهواء.
لكنْ، أيكفي الاعترافُ بالأخطاء دون أن نحاول تغييرها ؟
وكيف نغيِّر أمراً اعتدنا عليه حتى صار كالطبيعة الثانية لنا ؟
2
هاهو أبي يقترب من الدار. إني أسمع خَفق خطاه المتلعثمة، وأتصوَّر يديه الوانيتين تدفع عربة الذرة المسلوق في ثقل وملالة.
وهاهي أمي تتحرك من سريرها، ثم تخرج متجهة إلى صحن الدار مهتدية إلى بابنا الخشبي المتآكل، بغريزتها، أو ربما بنجوم الليل الذي هبط منذ ساعات؛ فتتناهى إلى غرفتي طقطقة سريرها وهو يتأوه صريراً متتابعاً كآهة.
وهاهو أبي يدخل الدار، مندلقاً على الأرض الرطبة، هيكلاً عظمياً ذا رائحة غريبة، ثم ألمحه من وراء نافذتي ينهض من جديد بجهد ملحوظ، ويقول بكلمات غير واضحة:- مساء الخير..لا تدعي العربة في الخارج يا رجاء.
ويتجاهل أمي وكيانها المرتجف، فيخطو إلى غرفته، محاولاً إخراج صفيرٍ منقطع من شفتيه المتشققتين، لكن أمي تدفعه بمنكبها صائحة:- إلى أين ؟! (وتقلِّد صوته مستهزئة) العربة.. يا رجاء في الخارج ! هه ! هل بيتي خان لأمثالك !؟
فيحاول أبي التماسك، ويمد يداً متسخة الرؤوس إلى شعره المفلفل.. أتراه ينبش فكرة خبيئة ؟ أم يقتل قملة ملحاح ؟!
ثم بيأس مضحك وهو يقتعد الأرض:
- ما مساء الزفت هذا ؟! ألا يكفيني هَمُّ البضاعة المسروقة، والحال القطران اليوم ؟! دعيني واقبري المناقشة، فأنا أكاد أموت تعباً.
فتحتد أمي أكثر.. وترتجف، متمنية لو تمطر السماء حجارة، فأردد في قلبي: آمين، بينما يتعالى صوتها الحاد:- ما شاء الله ! تَعِبٌ ؟! من جيوبك الخاوية، أم من أعواد الذرة المسروقة يا عيني ؟!
فيقول لها كالمستعطف:- لا تصرخي. (ويتثاءب) الجيران، وكذلك ابنك، نائمون. لا توقظي البشر على تفاهات لا أهمية لها.. كل شيء يتم بالهدوء والتفاهم !
ويغمض عينيه فجأة، فيتساقط رأسُه على حِجْره فتزفر أمي وهي تجره إلى غرفته، لينام أبي بثيابه وبرائحته التي لا تفارقه. وتقول له وهي تهزه متذكرة كلماته:- الهدوء ؟! هل تعرف أنت الهدوء ؟! أنت وصمة عار لنا.. لكن لماذا بُليتُ برجل مخمور وولدٍ مثلِ أبيه كقفة الهمّ على القلب ؟!
ويتعاظم شخيرُ والدي، فتُتابع بصوت عال:- الأب يتغيب طوال النهار، ثم يأتي إلى البيت كالقتيل ! والولد طالع لأبيه، لا خير منه !
وأصمُّ أذني، وأستنجد النوم كما استنجده أبي.. لكن النومَ، بالنسبة إليَّ، مسافرٌ جحود لا يأتلي يبحث عن حقائبه في محطات بعيدة، والليل طويل بلا حدود، والفجر نسي طريقه فلمَّا يطلع بعد.
3
الحارة ملاذي الآمن، والمكانُ الذي أشعر فيه بالحبور الدائم غير المنقطع. ففيها أجد ذاتي الضائعة، وفيها أستبدل بغربة البيت ووحشته ألفة الرفاق وصحبتهم.
وفيها تتفجر طاقاتي، وتبرز إمكانياتي الهائلة. فأنا آمرٌ، طالِبٌ، مُشير..وما على الجميع إلاَّ الإعجابَ والرضا والإنصات، ولذلك لُقِّبتُ بحق: الكاسر، زعيم عصابة كفِّ الثور الأحمر.
فأنا رئيسٌ لعشرة شباب هم في مثل عمري، والمجتهد منَّا في الصف التاسع هو !
لكنْ.. هل أكذب على نفسي ؟!
ألم أقرُّ منذ البداية بأنني سأعترف !؟
هل حقاً أنا سعيدٌ في الحارة ؟ أم أنا واهمٌ أخبئ أحزاني خلف التظاهر الكاذب ؟
إذ أنني كثيراً ما شعرتُ بالكآبة وأنا ألعب مع رفاقي. وكثيراً ما تحوَّلتْ ضحكتي انفراج شفتين وإخراج ضحكة ميتة لا حياة فيها.. بل كثيراً ما شعرتُ بالسأم والملالة وتمنيتُ لو أستطيع أن أصرخ وأزعق.. أن أصيح، أو أن أبكي حتى أبلل خديَّ الشاحبين !
ورغم هذا، فكثيراً ما نسيتُ نفسي، وكثيراً ما اندمجتُ مع صحبي، فتراكضنا، وتصارعنا،.. وكنتُ الأقوى دائماً.
فما معنى هذا ؟!
4
ففيها الشيخ أمجد، بعينيه الرائقتين، وبوجهه الباسم الصافي دائماً، المزيَّن بلحية خفيفة استكانتْ على عارضيه.
فيها الشيخ أمجد، الذي كثيراً ما وقف ناصحاً، محاولاً أن يدلنا على طريق الخير. فأذكر كيف كنا نركض نحوه متجمعين، متحلقين حوله فيما يشبه الدائرة حوله، عندما نلمحه قادماً من بعيد.
وأذكر كيف كانت تتحول طيبته إلى كلمات لاذعة كالسياط المحمَّاة،عندما يحاول أحدنا أن يقلب حديثه إلى سخرية.
وللحق، فإننا كثيراً ما تظاهرنا بعدم الاهتمام بكلماته، رغم أنها كانت تتسرب إلى أعماقنا، وتُحدث فيها ما يشبه الصدمة والتفتح.
ومرة قال لنا وهو يدير عينيه الرائقتين في وجوهنا:- ألا تودون أنْ تتحول طاقاتكم إلى عمل نافع تستفيدون منه في الدنيا والآخرة ؟
فأجابه صديقي بسام بتشوق:- نعم بالتأكيد. لكن، كيف ؟!
وعندما حاول الكلام، هزَّ لؤي كتفيه باستهانة وقال بجرأة: - ستقول لنا حتماً تعالوا إلى الجامع.. يا شيخ، هل الدنيا كلها صلاة ؟! إننا ما زلنا شباباً، وغداً عندما نكبر سنتجه إلى العبادة والزهد، لكننا لن نقبر أنفسنا اليوم بملء إرادتنا.
ووقتها صمتنا جميعاً مترقبين. وتوقعنا أن يصفع لؤيَّ لجرأته. لكنه حدَّد نظراته، وقال بلهجة متزنة:- للأسف أنتم ما زلتم، رغم ادعائكم الوعي، مجرد أطفال عابثين.. فالعبادة ليست صلاة وحسب، بل هي كلُّ عمل يتقرب به الفرد إلى الله بقلب راجٍ رضاه. والجامع ليس مكاناً يُميت زهرة الشباب، بل هو مدرسة ومكانٌ لتذكير النفس الغافلة.. وبالتالي فالصلاة محطةٌ نتزود منها بنفحات الرحمن.. فهل هي قبرٌ للنفس ؟
وأجبنا دون تردد:- أبداً..ليستِ الصلاة قبراً للنفس !
وقال بسام:- رأيت بعيني أحدَ الشيوخ يقوم بصحبة طلابه بنزهة لطيفة، ورأيتهم يلعبون ويمرحون، وكانوا سعداء بحق، كأنهم يقومون بتأديةِ فرضٍ عن رضى وقناعة.
فقلنا له:- يا كاذب.. وكيف رأيتهم وأنت لا تعرف الصلاة أصلاً ؟!
فأجاب بثقة:- رأيتهم عندما كنت في الغوطة مع أهلي وكانوا هم المميزين بأدبهم وأخلاقهم، فقال لي أبي: ليتك تذهب إلى الجامع كي تصير مثلهم.. هم غرساتٌ طيبة نفخر جميعنا بهم !
فقاطعه لؤي وهو ينفخ بعصبية:- إذن سنأتي من أجل عيون أبيك إلى الجامع ، ونصير مثل تلك الغرسات الطيبة ! ما هذا التخريف يا جماعة ؟ دع الخيمة والجملَ لك وحدك.. أنا لن أذهب إلى الجامع أبداً !
فقال الشيخ أمجد:- إذا أردتَ الصلاة فصلِّ لربك، وصر غرسة لنفسك. والخيمة والجملُ ماض مشرقٌ لا نخجل منه، وسنعيده إن شاء الله بآفاق العلم واستمرارية أحكام الدين وإشراقات الغد.. وما دام عقلك محدوداً إلى هذه الدرجة، فمن الأفضل أنْ تُوسِّع آفاقه لتُطلقه من أسْر الوهم، فتعرف حقيقة العبادة، وما هو الفرق بين الجمود وأحكام الدين، وما معنى شموله لدقائق حياتنا كلها.
وصمتنا للحظات.. ودارتْ عقولنا في كل اتجاه.. وشعرنا بنفح جديد، وبروح جديدة تنسكب هادئة في نفوسنا، كأنما كنا نقول خفية: الدين هو الحياة كلها، وهو الدرب الصحيح الأوحد.
ولحظتها قلتُ بحماقة، وأنا أقضي على شعاع النور الذي شعَّ فينا:- وداعاً الآن دكتور.. إن شاء الله سننصلح عمَّا قريب !
فقال أمجد وهو يغادرنا:- تمني الصلاح لا يفيد. وكل عمل إذا لم يخرج من حيِّز الأمنية إلى حيِّز الواقع، يبقى عملاً مريضاً لا ينفع. ( وبدفء جميل تابع) أصلحكم الله.. ثقوا أنني أتمنى لكم الخيرَ من قلبي.
5
الملل حبلٌ غليظ يطوِّقني. يكتم أنفاسي. يضغط عليَّ بيدين قاسيتين.
والشمس في كبد السماء أتونٌ مستعرٌّ لا تكفُّ عن جلْد الأرض بحميم متواصل.. وأنا أكاد أختنق، بل أنا أختنق فعلاً مللاً وغيظاً، وأعتقد بأن زعامتي لصحبي قد بدأتْ تنهار، حتى أوشكتْ أنْ تكون زعامة هشَّة كقطع الورق.
وخطوتُ بكآبة إلى البيت، وأنا أتمنى أنْ يزورني النومُ سريعاً، لأنسى كلَّ شيء، ولأغيب عن الدنيا وما فيها، ولأغيبَ - مع وهْم الحلم - إلى أرض أصنعها بنفسي ، ولأكونَ فيها - على الأقل - زعيماً حقيقياً، بعد أنْ تركني الأوغادُ شبه وحيد.
لكنْ ،لا.. مهلاً ! ليذهبَ الآخرون كلهم ليذهبوا.. فهم الحمقى وأنا العاقل !
عاقلٌ حقاً !؟
نعم، فأنا لن أملأ الدنيا صراخاً لأن واحداً مثل صديقي بسام الأحمق تركنا بكل بساطة ! ولن أعْوِل قط على لحاق سامر ورامز به !
لكنني أنا أكذب - كما هي عادتي- على نفسي، لأنني أشعر بأن الآخرين جميعهم سيلحقون بهم، حتى أبقى، في النهاية، دون أنيس. وساعتها ستأكلني الوحدة، وسيذهبون كلهم إلى الجامع كما ذهب الأوغاد أولئك منذ أسبوع.. ووقتها سيتبجحون أنه صار لحياتهم هدفاً حقيقياً، ولذة سامية يعرفها الذائقون.. وسألاحظ أنهم سيتغيرون، وسيرفضون العودة إلى اللهو، قائلين بحماس إنهم يستغلون أوقاتهم فيما يُفيد !
هكذا فعل صديقي بسام والآخرون، فكأنهم ما عادوا هم الأشخاص الذين عهدتُهم، وانقلبوا إلى أناس آخرين، وصاروا حتى في المدرسة من الذين يسعون إلى الجِدِّ دائماً حتى في دروس ألعاب الرياضة !
وسأبقى أنا.. وسيأكلني الملل دون رحمة.
وسيشملني الألم، لأنني بمفردي، ولأنني زعيمٌ من ورق.
ورغم أنني على يقين من أنَّ طريق رفاقي هو.. الصواب، فلماذا لا أتحرك ؟!
6
ودخلتُ إلى البيت يائساً، مقهوراً.. أشعر أنني بناءٌ موشكٌ على الانهيار قطعة قطعة. وفاجأني صوتُ أمي وأنا أخطو إلى غرفتي:- نبيل.. يا نبيل.
فأجبتها وأنا أرمي الكتب فوق سريري:- نعم يا أمي ؟
:- اذهبْ واشتر جُرزة كزبرة فوراً.
فخطوتُ نحو المطبخ، وأنا أتشمم الرائحة التي عبقتِ الجو، وقلتُ:- ما طعامُ اليوم ؟
فقالت لي أمي:- وماذا تريد أن يكون يا (بوبو) عيني ؟ (أوزي) يا خواجا عصره، أم (نَمُّورة) ؟!
ولمَّا لم أجب، تابعتْ:- (حُرُّوا بأصبعه). أف..اذهب فوراً بلا إضاعة وقت.
وفردتُ جيوب بنطالي:- إنها خاوية، وما أحمل قرشاً واحداً.
فالتفتتْ نحوي وهي تضع يدها على خاصرتها وتضرب برؤوس أصابعها على جانبها:- طبعاً ليس معك قرشاً واحداً.. فأنت طالع لأبيك،عاطلٌ وشرهٌ. (ومدتْ يدها إلى صدرها) خذ.. سَمُّ (الهاري) يأكلك وأباك.
فخرجتُ من المطبخ، وقلتُ بصوت عال، وأنا موشك على البكاء:- ليتكِ يا أمي تعامليني مثل كل الأمهات.
فبصقتْ وهي تطل برأسها:- أتتذمر يا متمرد، وما همُّك إلاَّ الأكل والحارة ؟! اذهبْ.. ملعون أنتَ وأبوك.( وتابعتْ كمثل الزعيق) جيلٌ قذرٌ يعرف كيف يتكلم.. والله عشنا وشاهدنا أولادنا المناكيد يقرصوننا كاْلبَقْ.
فمشيتُ وصدري منطبق، وتجمَّع حزنُ العالم كله في صدري.
ولمَّا فتحتُ البابَ، طالعني أبي بوجهٍ عابس:- إلى أين يا نبيل الزفت ؟
فأجبتُه وعيناي لا تفارقان مواقع قدميَّ:- سأشتري جُرزة كزبرة.
:- هيه.. (ومدَّ يده متحسساً جيوبي) هات ما معك.. هات النقود ولا حاجة لطعامٍ جديد كل يوم.
ثم دَلف إلى البيت، فلحقتُه مطالباً بالنقود، فسمعتني أمي، فركضتْ كالملدوغة: - لماذا لم تأت بالكزبرة ؟!
فأجابها والدي بصوت خشن:- أنا أخذتُ النقودَ منه !
فلطمتْ صدرها:- ولماذا يا وجه البوم ؟! ألا تريد أن تأكل (كِرَّاتي الكحلي)؟!
(وتفحصَّتْ صحن الدار) أين عربة الذرة يا مقصوف ؟!
:- في جهنم الحمرا.. بعتها لأسدد ديوني.
واقتربتْ أمي نحو أبي، وتراجعتُ إلى الوراء وقلبي طبلٌ همجيٌ لا تتوقف ضرباته المتسارعة ! وقالتْ له:- صرفتَ المال على المشروب الكِرَّاتي، سَمٌّ على بطنك ومكاحلك ! هه ولماذا جئتني الآن ؟! هل أنا مسرورة بمشاهدتك النتنة ؟!
فدفعها والدي:- ابلعي لسانك، وإلاَّ حطمتُ عظامك !
ففردتْ يديها:- لقد صرتَ رجلاً يا نصف نصيص؟! (ورفعتْ صوتَها) اسمعوا يا عالم .. المخمور يُهَدِّد امرأةً ضعيفة مثلي !
:- قلتُ اخرسي !
: - لا، لن أسكت يا خمسيني يا قذر.
ودوَّت صفعة، تبعَتْها ضربةٌ على البطن. وتأوَّهتْ أمي وهي تنحني على الأرض متألمة.. لكنها نهضتْ وبصقتْ على وجه أبي، ثم خمشتْ جسمه كلبوة جريحة. وقال أبي، وهو يتحسس جسمه:- هاتِ ما معكِ.. أريد نقوداً يا بنة الكلب.
:- مرأى القبر أهْوَن من إعطائك قرشاً واحداً.
7
كنتُ في مكاني قرب الوصيد لا أزال أرتجف، والشمس الحارقةُ تسكب غيظها. وصرخ أبي وهو يلوي يدَ أمي:- سأكسرها إنْ لم تُعطني النقود.
فغرزتْ أصابعُها في شعره المُفلفل بصعوبة،وهي تتأوه متألمة، ثم شدَّت بجماع قوتها حتى كاد شعره ينقلع من أصوله.. فترك يدها، وهدر حانقاً:- رأسي يا مجرمة !
وأدار عينيه بحثاً عمَّا يشفي غِله، فرأى الهاوَن، فأمسكه بكلتا يديه ورمى أمي به.. فتعالتْ صرختُها مُدَوِّية، ورأيتُ الدم ينزف من رأسها بحيرةً صغيرة أخذتْ تتعاظم وتلفُّ جسدها الصامت بلا حراك.. فصرختُ بفزع وأنا أدنو قربها:
- لقد ماتتْ -
ثم تركتُها كما هي، وصياحُ أبي ورائي:- تعال يا حيوان ! تعال واعمل لأمك شيئاً، إنها لا تتحرك !
فجعلتُ في أذني وَقْراً، وخرجتُ إلى الحارة والدموع في عينيَّ، وقلتُ وأنا أشهق وأمسح دموعي:- أقدامنا تغوص في وحل الخطأ منذ أمد طويل.. فأين النجاة، أين دربك دكتور أمجد ؟!
ونَغِرت عليَّ العاطفةُ، فتراجعتُ عائداً صوبَ الدار، فسمعتُ صِوات جارتنا أم أحمد يمزق كلُّ أفكاري، فبقيتُ قرب الباب واقفاً لا أتحرك، كأنما ثُبِّتُ على الأرض بمسامير خفيَّة.. وأخذ الصِوات يتعالى، وسمعتُ بوضوح من يقول:- الله يرحمك يا رجاء !
وبعد أسبوع اختفى أبي من الحارة، واستطعت أنْ أخبئ أحزاني كلها، دون أن أرتدع عمَّا ألفته. فتظاهرتُ باللامبالاة وعدم الاهتمام، كأنما كنتُ أقنع نفسي بأنني أستحق لقب الزعيم عن كل جدارة !
واليومَ، لما رأيتُ رفاقي، أقبلتُ نحوهم دون أن تفوتني ملاحظة غياب أغلبهم، فقلتُ ساخراً:- صرنا هذه الأيام كبئر لُعن بالشح، فتناقصَ ماؤه شيئاً فشيئاً !
واتفقنا على الذهاب إلى الحارة الأخرى لنتحدى عصابة سمير في لعبة السيوف.
8
تجمَّع غضبي كله ونحن نلعب لعبةَ السيوف. وكانت ضربات عصاي قوية، تحمل غضبي وكراهيتي ويأسي.. ولم أعد أشعر بنفسي، وبصيحات الإعجاب بمهارتي، التي تحوَّلت بعد قليل، إلى صيحات ذعر وقلق.
وقال لي لؤي:- انتبه يا نبيل.. ستقتل سمير !
وتراجع سمير إلى الوراء وهو يرتجف، والعصا بيده عجوزٌ تعبة لم تعد تحميه من ضرباتي المتلاحقة !
:- كفى.. تمالك نفسك يا نبيل ! لستُ عدوَّك !
لكنني كنتُ أتخيل ماضيَّ البائسَ والليلَ الطويلَ الذي لا يبرح بيتنا أبداً، وأتخيل أبي وأمي، وأتخيل الرابطة المفككة التي نحيا تحت رزئها.. فكنتُ أضرب أكثر، كأني أضرب كل أولئك متشفياً ! كنتُ حاقداً، غاضباً، يائساً.. وكانتْ ضرباتي تنهال بلا رحمة، كقوة غريبة انفلتتْ من إسار أيِّ قيد، وانطلقتْ مجنونة لا تعبأ بأيِّ شيء !
ولمَّا تتابعتْ ضرباتي، طاشتْ إحداها كطلقة خاطئة فصرخ سمير وهو يضع يده على عينه:- آه ه.
وتساقط على الأرض منتحباً، كأنما فقَدَ أعزَّ ما يملك.
فانتبهتُ إلى نفسي، ورفعتُ يدَه عن عينه برفق،وهو لايني يصرخ متوجعاً: - عيني..عيني.!
وتفطر قلبي.. وتجمع حولنا الناس، وأحاطوني كمجرم:- الله لا يعطيك العافية.. قلعتَ عينه !
فبكيتُ. بكيتُ كطفل رضيع حُرم ثدي أمه، وتمنيتُ لو يأتي الموتُ سريعاً ليخطف دقائق عمري.
لكنْ كيف أريد الموت وأنا لم أسلك طريقَ الهداية،ولم أعرف دربَ الله بعد ؟!
وصرختُ:- لستُ مجرماً.. المجرم من تركني بلا رقابة ! المجرم أبي وأمي !
وصاح أحد المجتمعين، بل ربما صاح ضميري على لسانه:- ذلك لا يبرئ ساحتك، وسُتجازى أنت وأمك وأبوك.
فقلتُ:- أمي ماتت.. وأبي ما يزال هارباً !
فعَلَتْ أصواتٌ كثيرة، وغامت الدنيا في عينيَّ، وصارت رؤوساً كثيرة، وعيوناً تتطلع نحوي بفضول.
9
يلفني الليل والصمتُ وأبوابُ مدرسة الأحداث الموصدة. الوحدة قاتلة وقاسية، والليل بلا نهاية،ولا أنيس إلاّ كلمات الله أتلوها متدبراً.
نعم، لم يبق سواك يا إلهي ألتجئ إليه وألوذ في كَنَف رأفته؛ أسكب دموعي على أعتاب رحمتك، هارباً منكَ إليك، عارفاً دربك المنير بعد أن مزَّقتني الآلام وصيَّرتني أشلاء حزن.. فضيعتُ نفسي، بحمق غريب، بحجة تقصير أبي وأمي.
أهرب منكَ إليكَ،وأرفع يديَّ مبتهلاً، بعد أنْ ساقني الناسُ مجرماً منبوذاً.. فرأيتُ بأم عيني كيف تهشمتْ زعامتي وصُيِّرَتْ هباء.
ألجأ إليك بعد أن رأيتُ أصدقائي يرحلون عني صائحين برعب:- هذا هو المجرم !
وأنا أقِرُّ أنني مجرم، لكنني أتمنى لو كان لي أبٌ وأمٌ كما كل الآباء والأمهات يُعلِّماني طريق الصواب.
لكنْ أين أبي وأمي ؟!
أين أنتما يا من تركتماني للحارة طليقاً، فخسرتُ نفسي.. أواه، بل خسرنا أنفسنا جميعاً !
وأصرخ كالمجنون:- أبي ..أمي !
فلا يجيبني إلاَّ السكون وصوت المشرف:- هِسْ.. هِسْ.
فأطلق صرخة مدوِّية في داخلي:- رُدَّا عليَّ، كلِّماني ولو حرفاً.. أين أنتما ؟!
ويتردد الصدى دوياً، وتنحدر من عيني دمعة كبيرة. فأنا منذ اليوم بلا أب ولا أم.. تركاني هنا بين جدران أربعة، أتلوى ألماً، ورحلتْ أمي بعيداً.. بعيداً نحو السماء ! صارتْ أمي عصفوراً هدَّم قفص الجسد، فهفتْ روحه عالياً..
إنني أراها الآن بعيدة، فأمد يدي نحوها، أقرِّب وجهي منها، أحاول أنْ ألثم يدها، لكنها ترفض، وتهمس لي بعذوبة لم أعهدها عندها من قبل:
- إنْ أنا أخطأتُ، فلا مبرر لأخطائك.
وتتركني هنا مع وحدتي.. فيتعالى بكائي شهقات متتالية، ويتردد صوت المشرف ثانية:- إفْ فْ.. هِسْ.هِسْ.
فأدفن وجهي في وسادتي وأنا أنتحب.
فقدَني أبي.. فقدَني بعد أن سلَّ خيوط حياته بنفسه، بعد أن سرق روح أمي.. وسيعيش الآن طريداً خائفاً، ومهما اختفى ستناله يد القاضي، فهل هذا يا ربِّ عقابٌ عاجلٌ لأنه لم يَرْع أسرتنا ؟!
ويا ربِّ أنت الكريم الحليم القدير، ارحمني وارحم جهل أبوي.
وأنا خاطئ، مُقِرٌّ بذنبي، معترِفٌ بأخطائي كلها وبتقصيري جميعه.. وأنت عدلٌ رحيمٌ، واسع العطاء، فمُنَّ عليَّ يا كريم. افتحْ قلبي الذي أوصدتُه بيديَّ الملوثتين.
ارحم أبي وأمي، وتجاوزْ عن خطيئاتهما وزللهما وجهلهما، فأنت مسامحٌ كريم.
وبكيتُ ثانية، وشهقتُ. وشعرتُ أن الكونَ يبكي معي.. شعرتُ أنني بستانٌ كبيرٌ نبتتْ فيه فجأة آلافُ الأزاهير العذبةِ، تنطلق من روحي فرحة مشرقةً، آملة، وتطير في الجوِّ مزقزقة معانقة نجومَ السماء.
فرفعتُ يديَّ وشكرتُ ربي، ولساني لا يأتلي يردد آيات الله والمأثور من الدعاء والتسبيح.
** ** **
10
جاء المشرف عن مدرسة الأحداث مهرولاً إلى ساحة اللعب منذ الصباح الباكر، بصحبة الشيخ أمجد. فما إنْ وقعتْ عيناي عليه حتى علاني شعورٌ بالحيرة والاضطراب، فانزويتُ خلف رفاقي مستتراً.
كانت الشمس ما تزال تتثاءب وترسل أشعة وانية تستلُّها من جسدها الملتهب، وترميها على أرتالنا المنتظمة تنفيذاً لدرس الرياضة الصباحي.
وعندما وصلا قربَ صفوفنا، صاح المشرف منادياً عليَّ بأعلى صوته:- نبيل السالم.. الرجاء أن يتفضل إلى هنا !
فغادرتُ ساحةَ اللعب، وتقدمتُ من المشرف والشيخ أمجد بخطى رشيقةٍ، وقلتُ للمشرف بعد إلقائي السلامَ بصوتٍ خفيضٍ:- نعم سيدي !
فابتسم المشرفُ:- اذهبْ والبسْ ثيابك، وهييِّءْ نفسك للخروج !
فكدتُ أطير من الفرح، وتطلَّعتُ إلى وجه الشيخ أمجد غير مُصَدِّق، فابتسم مؤكِّداً: - سيُطلق سراحك إن شاء الله.. الشاب سمير أسقط حقَّه.
فركضتُ عصفوراً مُغَرِّداً لأخبر رفاقي، فغمز المشرفُ بعينه الشيخ أمجد بحبور وقال له:- سمعتُ بما فعلتَه جازاك اللهُ كلَّ خير، وهذا ليس مستبعداً من أمثالك ! بل الأغرب أنني سمعتُ أنك دفعتَ الكفالة أيضاً.
فتعالتْ ضحكة الشيخ أمجد وهما يخرجان من الملعب:- نعمل ونُلقي عملنا في بحر رحمة الله. (وتنحنح) أرجو أن يكون خالصاً لوجهه. ولمَّا هيأتُ نفسي ودَّعتُ رفاقي، فقال لي أحدُهم وهو يشدُّ على يدي:- ما أجمل طريق التوبة، وما أجمل رحمةَ الله.
وقلتُ:- ربما لو عَلِم أبي قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسؤولٌ عن رعيته.. لما حَدَث كل هذا.
فوكزني آخر:- يا ظالم .. لو لم يحدث هذا لما سُررنا بلقائك.
فارتفعت الأصوات:- آمنا بالله.
ورددَّنا معاً:- الحمد لك يا واسع النعم.
دمشق 1979 م