جماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت (بحركتين) الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد، وتنظر ما جودته. ومنها قيل للشُّبهة واللَّبْس: فتنة، وللضلالة عن قصد السبيل، والميل عن الحق: فتنة. فُجعلت الفتنة كالبلاء، في أنهما يستعملان فيما يُدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى . قال ابن الأثير (المبارك بن محمد، ت: 606 هـ): وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كثرت حتى استعملت بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء (النهاية في غريب الحديث والأثر: فتن).
وأحاديث الفتن وردت كثيراًُ في الأحاديث الشريفة، لكن أغلبها لا أصل لها: وردت في سير المغازي وكتب الملاحم والتفسير، فأخذها الناس على ظاهرها، ولم يتتبعوا رواياتها، فقالوا: إن الإسلام في إدبار والكفر في إقبال، وإننا في آخر الزمان، والدين ضائع، وإن الدنيا أكلت الدين فلا يتهيأ لنا خلاص، ولم يعد للخير وجود ولا للحق أهل.. مع أن هناك أحاديث فتن صحيحة لا شك فيها، فألغوا بتثبيطهم قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك الأنصاري (ت: 91 هـ خادم رسول الله)، وإسناده صحيح: إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها (الأدب المفرد للبخاري رقم 479، مسند عبد بن حميد 1216، مسند البزار 7408)، ورواه أحمد بن حنبل بلفظ: إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها
[1](المسند 12902)، أي فليغرسها رغم أنه لن يأكل منها ولن يأكل منها أحد بعده؛ وذلك ليظل المسلم منتجاً إلى آخر حياته: يعمل للدنيا والدين، فيمتثل قوله تعالى: (اعْبُدْ رَبَّكَ حتى يأتيك اليقين) - الحجر: 99- يعني الموت اليقين
[2]، أي اعبد ربك إلى أن تموت، لأن العبادة عمارة وخلافة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر المسلمين أن يقنطوا من غدهم وييأسوا من مستقبلهم أو من الإيمان بربهم فــ (إنه لا ييأس من روح الله إلاَّ القومُ الكافرون) - يوسف:87 - وما (يقنط من رحمة ربه إِلاَّ الضالون) - الحجر: 56 - فاليأس من لوازم الكفر، والقنوط من مظاهر الضلال، فلا يجوز أن تفهم أحاديث الفتن كما يفهمها عوام الناس: أننا في آخر الزمن وكفى الله المؤمنين القتال ! كأننا نعرف متى آخر الزمن ! (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لَعلَّ الساعة تكون قَريباً) - الأحزاب: 63- والقرب أمر نسبي، وعلامات الساعة الصغرى ظهرت جميعها، كان أولها ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره نبي آخر الزمان، لن يأتي نبي بعده ولا شريعة بعد شرعه ولا كتاب بعد القرآن.
فلماذا نقرأ الأحاديث التي تتحدث عن الهرج والمرج والقتل وندع الأحاديث المبشرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم، من حديث تميم بن أوس الداري (ت: 40 هـ)، وإسناده صحيح: ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر
[3] إلاَّ أدخله الله هذا الدين
( صحيح ابن حبان 1631 و 1632، المنتقى من كتاب الطبقات لأبي عروبة 1 / 10 / 2 رقم 72 ). فالدين اكتمل، وأحاديث الفتن لا تقدم جديداً في الدين: (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) - المائدة: 3- وكل ما في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحذر أمته من أشياء ستحدث فيما بعد، فأحب أن يكون الناس على حذر منها، ولذلك اهتم بعض الصحابة بها كحذيفة بن اليمان العبسي (ت: 36 هـ) الذي عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم بالفتن وأعطاه من الأسماء ومن الأخبار ما لا يعرفه غيره، ففي حديثه الصحيح: كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله كنا في جاهلية فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قال حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه ؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر[4]. فقال حذيفة: يا رسول الله، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إِليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا ؟ قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا. يعني: من العرب. قلت: يا رسول الله، فما تأمرنا عند ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإِمامهم. قلت: فإِن لم يكن لهم جماعة ولا إِمام ؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ( صحيح البخاري حديث رقم 7084 كتاب الفتن، صحيح مسلم حديث رقم 1847 كتاب الإمارة). فكان حذيفة يعرف ذلك، ولذلك كان عمر يقول له: هل أنا منهم ؟ فيقول له حذيفة: لا يا أمير المؤمنين، ولن أذكر ذلك لأحد من بعدك. أي لن أكشف ذلك لغيرك.
** ** **
وكما كان سيدنا عمر يخاف أن يدخله النفاق كان الصحابة يخشون على أنفسهم أن يدخل على أيمانهم ما يفسد هذا الإيمان ويضيع حقائقه، ولذلك كانوا يخافون من الفتن ويخشون من النفاق، قال تعالى: (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) -الأنفال:25- لأن الفتن تأخذ المؤمن الذي على الجادة والضالَّ الغافل، فتسوِّي بين الصالح والطالح، وفي حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول:لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج، ومأجوج مثل هذا، وحَلَّق بإصبعه وبالتي تليها،فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثُر الخَبَث (صحيح البخاري، حديث رقم 3346 كتاب الأنبياء، صحيح مسلم، حديث رقم 2880 كتاب الفتن وأشراط الساعة).
والخبث: الشر، والفساد، والمنكر في الدين. يهلك الناس وفيهم الصالحون، فيجازي الصالحين بصلاحهم، ولا ينفع صلاحهم لأنهم لم يقاوموا الفساد، فأتى الشر وأخذ الجميع.
لذلك اعتبر القرآن الفتنة أشد من القتل، ولذلك فرَّ أبو ذر الغفاري من معاوية حينما خالفه في قضية الإنفاق والكنز، وحلف أن لا يجلس معه في أرض.
[1] الفسيلة: النخلة الصغيرة تُقطع من الأمّ أَو تُقلع من الأرض فتُغرس.
[2] اليقين: الموت، لأنه تيقَّن لحوقه لكل مخلوق حي، وقيل له يقين، وهو موقن به، مثل قولهم: خمر عتيق، وهي مُعتقة.
[3] بيت مدر: يعني بيت مبني من الطين، وبيوت الوبر: يعني البيوت المعمولة من شعر الجمال، يعني أهل البادية وأهل الحضر، أي كل الناس، والمدر في الأصل: الطين اليابس اللزج، لا رمل فيه، وهو الطين الحر.
[4] الدخن: الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر، وهو في الأصل كدرة إلى سواد يكون في لون الثوب ولون الدابة، كلون الحديد. وقوله: تعرف منهم وتنكر، أي ترى فيهم ما تعرفه أنه من الدين وترى أيضاً ما تنكر أنه منه. يشير صلى الله عليه وسلم إلى أن الأمراء بعده فيهم من يتمسك بالسنة والعدل ومنهم من يدعو إلى البدعة ويعمل بالجور، أو منهم من يعمل بالمعروف تارة ويعمل بالمنكر أخرى حسب مايقع لهم من تتبع الهوى وتحصيل غرضهم من أمور الدنيا، لا أنهم يريدون تحري الأحرى ورعاية الدار الأخرى.